المحور السابع
التثبت في الرواية أم عدم قبول خبر الواحد؟! ..منهج قبول رواية الآحاد عند الصحابة
كما سبق معنا في دراستنا من نماذج عديدة حول تثبُّت الصحابة في الرواية، وعدم قبول ما يخالف الأصول القطعية، وهو القرآن الكريم والسُّنة القطعية، والقياس الصحيح، وردّهم لروايات عديدة رواها آحادٌ من الصحابة خاصة متأخِّرُوهم ظهرت إلى السطح مسألة قَبول الصحابة لخبر الواحد، ما بين مُعترض عليه بالكلية ومؤيّد له ومتوسط فيه.
يقول د. طه جابر العلواني: “تشدَّدَ [التابعون] العراقيون بقبول الرواية لأسباب عديدة منها الأمر الذي ورِثُوه عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نقل محمد بن الحسن الشيباني ما رُوِي مِن خبَر أبي بكر مع المغيرة بن شعبة في توريث الجَدة، وخبَر عُمر مع أبي موسى في الاستئذان، بالإضافة إلى قول عليّ رضي الله عنه: كنتُ إذا لم أسمع من رسول الله ص حديثا فحدثني به غيره أستحلفه على ذلك، وهناك سبب آخر هو أن العراق في عصر التابعين وتابعيهم كان موطن النِّحَل المختلفة والفِرَق المتضَاربة”(1).
ويرى الدكتور صلاح الأدلبي أن تثبّت الصحابة في الرواية ليس معناه عدم قبولهم الخبر الواحد، وإنما كانوا يتحرَّون في الراوي والمرويّ، فقال: “سنَّ الخلفاء الراشدون بتثبُّتِهم في الرواية سُنَّة حسنة حميدة، وهي ضرورية وأساسيَّة، لأن الرواية عن رسول الله ضرورة لا محيد عنها ولا مفرّ، ولكن ليس معنى هذا الاستثبات الشديد الذي قدّمت فيه نماذج منه أن الصحابة ما كانوا يقبلون خبر الراوي الواحد بل كانوا يقبلونه ويأخذون به كما ثبت ذلك عنهم، وقد قَبِل عُمر خبَر عَمرو بن حزم في أن دية الأصابع سواء، وخبر الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها، وخبر عبد الرحمن بن عوف في أمر الطاعون، وفي أخذ الجزية من المجوس وفي الذي يشك في صلاته.
وفي غير معنى الزيادة في التثبت والتأكُّد فقد كان الصحابة يأخذ بعضهم من بعض، ويَروِي بعضُهم عن حديث بعضٍ دون أن يبيّنوا أن هذا ليس من مسموعاتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الغالب على أهل العصر الدّيانة والتقوى ونور الصحبة الذي يشعّ فيهم”(2).
أقول: كان الصحابة يعتمدون على منهج قبول الخبر الواحد إذا كان له قرائن منها مَدَى مَوثُوقيَّة الناقل خاصة إذا كان من السابقين الأوّلين كما في قول الإمام عليّ الآتي بحيث إنه لم يستحلف أبابكر، أو اختصَاصِه بالموضوع حيث كانوا يَستوثقون من صاحب الشأن عند سماعهم للحديث من شخص آخَر، ولهذا قالت عائشة عندما سَأل أحدُهم عن المسح على الخفين: “سَلْ عليًّا، فإنه أعلم بهذا مني”، وعندما يَسمع بعضُ الصحابة حديثًا في الطهارة والغُسل والجنُب والحيض كانوا يرسلون إلى أمهات المؤمنين، وأرسلَ ابنُ عمر إلى عائشة يسأله عن حديثِ القيراط في الجنازة عندما سمعه من أبي هريرة كي يستوثقه منها.
وهذا لا يعني أبداً أن الصحابة اشترطوا لقبول الحديث أن يرويه راويان فأكثر، أو أن يشهد النّاس على الراوي أو أن يُسْتَحلَف، وإذا لم يحصل شَيء من هذا رُدَّ خَبره!! بل كان الصحابة يتثبتون في قبول الأخبار “عند الارتياب” كما قاله الحافظ في “الفتح”، ويتَّبعون الطريقة التي ترتاح إليها ضمائرهم، ويطمئنُّون إليها.
وعلى ذلك يُحمل قول البراء بن عازب: ما كلُّ ما نحدِّثُكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سمعناه وحَدَّثَنا أصحابُنا عنه، كانت تشغلنا عنه رِعْيَةُ الإبل، رواه أحمد في مسنده وابن أبي خيثمة في تاريخه، وفي رواية لابن أبي خيثمة قال البراء: ولكن كان يحدِّثُ بعضُنا بعضاً، ولا يتَّهِمُ بعضُنا بعضًا”، وروى الطبراني في معجمه الكبير نحوه عن أنس بن مالك.
الخبر الواحد لا يفيد العلم القطعي:
وعدم إفادة الخبر الواحد العِلْم والقَطع اليقيني هو ما عليه جماهير الأمة مُنذ عَصْر الصحابة وما بعدهم مِن الأصوليّين والفقهاء والمتكلمين وأصحاب بعض المذاهب السنية وغير السنية، ولم يخالف في ذلك إلا بعض مَن غَلا في مرتبة السُّنة الآحادية من أهل الحديث وبعض أهل الظاهر كابن حزم!.
قال الإمام أبوبكر الباقلاني في كتابه “التمهيد”: ” إنَّ خبر الواحد لا يوجب العِلم، ولكن يوجب العمل إنْ كان ناقله عدلاً، ولم يعارضه ما هو أقوى منه”.
وقال الحافظ الخطيب البغدادي: “خبر الواحد لا يُقْبَل في شيء مِن أبواب الدِّين المأخوذ على المكلَّفين العلم بها والقطع عليها، والعِلَّةُ في ذلك أنه إذا لم يُعلم أنَّ الخَبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أَبعد مِن العلم بمضمونه فأما ما عدا ذلك من الأحكام التي لم يوجب علينا العلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قرَّرها وأخبر عن الله عز وجل بها فإن خبر الواحد فيها مقبول والعمل واجب، ولا يُقبَل خَبر الواحد في منافاة حُكْم العَقل، وحُكم القُرآن الثابت المحْكَمِ، والسُّنة المعلومة، والفعل الجاري مجرى السُّنة، وكل دليل مقطوع به، وإنَّما يُقبل به فيما لا يقطع به مما يجوز ورود التعبـّـد به” (3).
أقول: الخطيب البغدادي كان في أوّل أمره حنبليا على طريقة أهل الحديث، ثم تحوَّل شافعيا وخالف طريقَتَهم، حتى قال ابن الجوزي في “المنتظم”: “كان أبو بكر الخطيب قديمًا على مذهب أحمد بن حنبل، فمال عليه أصحابُنا لِما رأوا مِن مَيله إلى المبتدعة وآذَوهُ، فانتقل إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه، وتعصَّبَ في تصانيفه عليهم”، ولهذا قال الحافظ المؤتمن الساجي وهو تلميذ الخطيب:”تحاملَتِ الحنابلةُ على الخطيب حتى مال إلى ما مال إليه”(4)، وقولُ الساجي هذا فيه ردّ على من زعم ممن ألَّف في عقيدة الخطيب ضعْفَ قول ابن الجوزي في الخطيب.
وكانت الحنابلة يُغالون في تقوية مرتبة السُّنة النقلية الآحادية، حتى قال الإمام البربهاري في مطلع رسالته شرح السّنة: “اعْلَموا أنَّ الإسلام هو السُّنة، والسُّنةُ هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر” إهـ فأين القرآن الذي هو أساس الرسالة المحمديَّة “الإسلام” لأن السُّنة هي مبيِّنة له؟!، ولذا وقعت بين الحنابلة والحافظ الخطيب خصومة وعداوة، فمال إلى الأشاعرة القُدامي والكُلَّابيَّة.
وقال الإمام النووي في “شرح مسلم”: “الذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدّثين والفقهاء وأصحاب الأصول، أن خبر الواحد الثقة حُجة من حجج الشرع يلزم العمل بها ويفيد الظنّ، ولا يفيد العلم، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنه يوجب العلم”.
يقول د.مسفر الدميني: “اختلف أهل العلم في إفادة خبر الواحد للعِلْمِ، كما اختلفوا في الاحتجاج به، فقال أهل الحديث ومنهم أحمد بن حنبل: الأخبار التي حَكَم أهلُ الصّنعة بصحّتها توجب علم اليقين بطريق الضرورة، وقال أكثر أهل العلم وجملة الفقهاء إن خبر الواحد يوجب العَمَل ولا يُوجب العلم يقينًا، أي: لا يوجب علم اليقين ولا علم طمأنينة”(5).
أقول: ومعظم السُّنة النقلية آحاد إلا ما عُلِم بالتواتر المعنوي كالشعائر الدينية، وصلاة العيدين مثَلا، وبذلك صرَّح الحافظ ابن حبان البستيّ في مقدمة صحيحه، وقال الحازمي في كتابه “شروط الأئمة الخمسة”: “ومَن سَبر مطالع الأخبار عَرف أن ما ذكره ابن حبان أقرب إلى الصواب”.
ولذلك يقول الحافظ العراقي فى “شرح الألفية”: “وحيث قال أهلُ الحديث: (هذا حديث صحيح)، فمُرادُهم فيما ظهَر لنا عمَلاً بظاهر الإسناد، لا أنَّه مقطوع بصحَّتِه فى نفس الأمر لجواز الخطأ والنِّسيان على الثقة، هذا هو الصحيح الذى عليه أكثر أهل العلم خلافاً لمن قال إن خبر الواحد يُوجب العلم الظاهر”.
وجوب العمل بالآحاد في غير العقائد إذا ثبتت ولم تخالف القطعيات:
وإذا كانت السنة النقلية الصحيحة بهذه المرتبة فإنه يُعمل بها وُجوبا إلا في العقائد، ولا تردُّ بالكُليَّة بذريعة كونها غير متواترة، كما ذهب إلى ذلك بعض من جازف في التشكيك بالسُّنة النقلية عموما، بل بمقتضى آحاديَّتها تكون عُرضةً على القرآن وعلى السُّنة المقطوع بها، وعلى القياس الصحيح – كما أصَّلنا ذلك في دراستنا – فيُعمَلُ بما لم يُعَارض ذلك.
يقول الإمام الآمدي شارحا هذا المبدأ المهم: “عُلم مِن ذلك أن ما رَدُّوه [الصحابة والتابعون] مِن الأخبار أو توقَّفُوا فيه لم يكن لعَدم حُجيَّة خبَر الآحاد عندهم، وإنما كان لأمور اقْتَضَت ذلك مِن وُجود مُعارض، أو فَوات شرط؛ لا لعدم الاحتجاج بها في جِنسها، مع كونهم مُتَّفقين على العمل بها، ولهذا أجمعنا على أن ظواهر الكتاب والسُّنة حُجَّة، وإن جازَ تركُها والتَّوقُّفَ فيها لأمور خارجة عنها”(6).
وقال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” في شرح كتاب أخبار الآحاد من صحيح البخاري: “خبر الواحد يجب العمل به احتِياطًا، لأن إصابة الظنّ بخبر الصَّدُوق غالبة، ووقوع الخطأ فيه نادر فلا تُترَك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة، وأن مَبنى الأحكام على العمل بالشهادة وهي لا تفيد القطع بمجردها”.
أما في الاعتقاد فلا يُشتَرط فيه إلا التَّواتر القطعي كالقرآن، ودليلُ ذلك أن الصحابة سلكوا في جَمْع القرآن في مصحف واحد طريقاً يُبيّن بيانًا واضحًا قاطعًا بأن خبَر الواحد لا يمكن أن تَثبُت به عَقيدةٌ قطعية، فاشترطوا عدداً مُعيناً يَحصُل القَطع بنَقْلِهم وهو ثلاثة أشخاص وهم: زيد بن ثابت ورجلان آخران فأكثر يشهدان بثبوت الآية الكريمة، وعندها تكتب الآية في المصحف.
ولنأخذ الآن النماذج عن الصحابة حول التثبت في الرواية:
النموذج الأول: أبوبكر الصديق رضي الله عنه:
روى أبوداود وغيره من أهل السنن عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجَدَّة إلى أبي بكر فسألته ميراثها، فقال: ما لكِ في كتاب الله شيء، وما علمتُ لك في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فارجِعِي حتى أسأَل الناسَ، فسأل الناسَ، فقال المغيرة بن شعبة: حضرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السُّدُس، فقال: هل معك غيرك؟! فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في تلخيص الحبير: إسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل لأن قبيصة وُلد عام الفتح فيبعُد شهوده القصة، وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: اتفقت الأمة على العمل بهذا الحديث.
قال الحافظ الذهبي: “كان أبو بكر الصِّدّيق رضي الله عنه أوَّل مَن احتَاطَ في قبُول الأخبار، وكان قُدوة حسنة للمُسلمين في المحافظة على السُّنة والتثبُّت في قَبُول الأخبار خشية أن يقع المسلمون في خطأ يُودي بهم إلى ما لا تحمد عقباه” (7).
النموذج الثاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
روى مسلم في “صحيحه” عن المسور بن مخرمة، قال: استشار عمر بن الخطاب الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدتُّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرَّة عبد أو أمة، فقال عمر: ائتني بمن يشهد معك، قال: فشهد محمد بن مسلمة.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا في مجلس عند أُبيّ بن كعب، فأتى أبو موسى الأشعري مغضباً حتى وقف، فقال: أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع؟ قال أبيٌّ: وما ذاك؟ قال: استأذنت على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرات، فلم يؤذن لي، فرجعت، ثم جئته اليوم، فدخلت عليه، فأخبرته أني جئت أمس، فسلَّمت ثلاثاً، ثم انصرفتُ، قال: قد سمعناك، ونحن حينئذ على شغل، فلو ما استأذَنتَ حتى يُؤذن لك؟ قال: استأذنتُ كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فوالله لأُوجِعنَّ ظهرك وبطنك، أو لتأتيَنَّ بمن يشهد لك على هذا!، فقال أبيّ بن كعب: فوالله، لا يقوم معك إلا أَحْدَثنا سِناً، قُم يا أبا سعيد، فقمتُ، حتى أتيت عُمر، فقلت: قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.
وروى أبوداود من حديث أبي موسى نفسه قال عمر له: ائتني ببيّنة على هذا، فذهب ثم رجع، فقال: هذا أُبَيُّ، فقال أُبَيُّ: يا عُمر لا تكُن عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم!، فقال عمر لأبي موسى: إني لم أتَّهِمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدٌ، وفي رواية أخرى لأبي داود: أما إني لم أتَّهِمك ولكن خشيتُ أن يتقوَّل الناسُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتقدَّم في محور عرض السنة على القرآن أن عمر بن خطاب ردّ حديث فاطمة بنت قيس في حرمان المبتوتة من حقّ السكنى، وقال: لا نَدَعُ كتاب ربّنا وسُنّة نبينا لقولِ امرأةٍ لا ندري أنسيت أم حفظت.
ولهذا يشرح الحافظ الذهبي مَنهج عمر في قبول الرواية في أوَّل “تذكرته للحفاظ” فقال: “وهو الذي سَنَّ للمحدِّثين التثبُّت في النَّقل، وربما كان يتوَقَّف في خبَر الواحد إذا ارتاب”.
ويضيف الذهبي: “وفي هذا دليل على أن الخبَر إذا رواه ثقتان كان أَقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حُضَّ على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العِلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوَهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد “.
النموذج الثالث: علي ابن أبي طالب:
روى أبوداود والترمذي وأحمد وغيرهم عن علي ابن أبي طالب عليه السلام قال: إني كنتُ رجلًا إذا سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني به، وإذا حدَّثني رجلٌ من أصحابه استحلَفْتُه، فإذا حلَف لي صدَّقتُه، ثم قال: وحدَّثني أبوبكر، وصدق أبوبكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر حديثا.
قال الذهبي أيضا: كان عليًّا رضي الله عنه إمامًا عالمًا متحريًا في الأخذ، بحيث إنه يستَحْلِف مَن يحدِّثُه بالحديث.
وتقدَّم في محور “عَرْض السُّنة على القرآن” أن عليا ابن أبي طالب ردَّ حديث مَعقل بن سنان الأشجعي في صَدَاق المفوضة، بقوله: “لا ندَعُ كتاب ربّنا وسُنَّة نبينا لِقول أعرابي مِن أشجع”.
النموذج الرابع: عبد الله بن عباس:
روى مسلم في مقدمة صحيحه عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدِّثُ ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابنُ عباس لا يَأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابنَ عباس! ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟! أُحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟!، فقال ابن عباس : إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلمَّا رَكب الناسُ الصَّعب والذلول، لم نأخذ مِن الناس إلا ما نعرف.
ومما ينبغي التنبُّه له أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك للاحتياط في ثبوت الحديث، لا لتُهمة شخص أو سوء ظن به، ولذلك قال عمر رضي الله عنه لأبي موسى :إني لم أتَّهِمك ولكن خَشِيتُ أن يتقوَّل الناسُ على رسول الله، وفي رواية: ولكني أردتُّ أن لا يتجرَّأ الناسُ على الحديث عن رسول الله.
والاحتياط في القبول بأخبار الآحاد أو التصريح بظنِّيتها من هذا القبيل أيضا إذا سَلِم الشخص من المجازفة في ردّ الأخبار الصحيحة، ومِن هَوَى النَّفس في التوسُّع بردّ الأحاديث، ولكن إذا كان ذلك من باب التَّشَدُّد والتثبُّت فلا بأس به.
هوامش:
(1) إشكالية التعامل مع السنة، مرجع سابق.
(2) الإدلبي ” منهج نقد المتن عند علماء الحديث مرجع سابق.
(3) الكفاية في علم الرواية ص:66.
(4) انظر المنتظم لابن الجوزي 16/136، وقول الساجي رواعنه الذهبي في ترجمة الخطيب من “سير أعلام النبلاء”.
(5) مقاييس نقد متون السنة، مرجع سابق.
(6) الإحكام للآمدى ٢/٦١
(7) تذكرة الحفاظ 1/2.
………………………………………………………..
في الحلقة التالية: أسباب عدم إفادة الخبر الواحد للعِلْم القطعي.