تكملة أسباب عدم إفادة الخبر الواحد للعِلْم القطعي
السبب الثالث: تعمُّد بعض الثقاث والحفَّاظ الكبار في تَغيير لَفْظ الحديث عَمْدًا لمصلحةٍ يَراها مِثْل التَّأكيد على مَذْهبه:
إذا كان المجاهيل والضعفاء والمدلّسون وغيرهم من المتَّهَمِين في النقل تصرّفوا في معنى الحديث إضافةً وحذفًا واختلاقًا كما ذكرنا في السبب الثاني الفائت، فإن هناك أيضا حفَّاظًا ثقَاتٍ تصرَّفوا في سياق ألفاظ الحديث حَسب مُيولاهم الفكرية أو المذهبية ورُؤيتهم في الصياغة، ولم يَحفَظُوا لنا النصَّ الذي سمعوه أو تلقَّوه كما هو!، فلا نذهب بعيدًا، بل نأخذ نموذج شخصية واحدة.
الإمام البخاري محمد بن إسماعيل الجعفي رحمه الله صاحب الصحيح وهو مِن كبار علماء الحديث وحفَّاظه، بل هو أمير المؤمنين في الحديث، وكتابُه أصحُّ كتابٍ في الحديث حَسَب رَأي معظم علماء المسلمين، هو من اشتهر بالرواية بالمعنى وتَقْطِيعها وحَذْفها، وقد تتبَّعْتُ بعضَ الأحاديث التي تصرَّفَ بها البخاري أو رواها بتصَرُّف شيوخه الثِّقاثِ فرأيتُ أن معظمها تتعلَّق إما بذَمِّ أفرادٍ من الصحابة المشهورين أو الحسَاسيَّة في فضائل بعضهم، وهذا مما انتُقِدَ على البخاريّ، لأن المعلومة – ناهيك عن حديث نبوي – يجب أن تُجْمَع ألفاظه وتُذكَر كما هي من غير نُقصانٍ كما سمِعْتَهَا من شيوخك.
ولهذا قال الحافظ ابن حجر في “النكت في على ابن الصلاح”: “كان البخاريُّ يَرى جواز الرواية بالمعنى، وجَواز تَقْطِيع الحديث مِن غير تَنصِيصٍ على اختصاره بخلاف مُسْلِم، لأن البخاري صنَّف كتابه في طول رحلته، فكان لأجل هذا ربما كتَب الحديثَ مِن حِفْظه فلا يسُوق ألفاظه برمَّتها بل يتصرَّف فيه ويَسُوقه بمعناه، ومُسلمٌ صنَّف كتابه في بلده بحُضور أصُوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرَّزُ في الألفاظ ويتحرَّى في السياق”.
وفي “هدي الساري” وهو مقدمة لشرحه المعروف على صحيح البخاري ذكر الحافظ أن اقتصار البخاري على بعض المتن ثم عدم ذكره الباقي في موضع آخر لا يقع له ذلك في الغالب إلا أن يكون المحذوف موقوفا على صحابي، وفيه شيء قد يحكم برفعه فيقتصر عليها ويحذف الباقي لأنه لا تعلق به بموضوع كتابه(1).
أقول: سبب تصرُّف البخاري في سياق الحديث ليس بطول الرحلة ولا بالمشقَّة والتشتُّت فقط، ولا بعدم تعلّق موضوع كتابه، بل بمصلحة يراها وهي الحِفَاظُ على عدم ذِكْر الصَّحَابة بالذَّمِّ، وهَاك بعض النماذج في ذلك.
النموذج الأول: قال البخاري: حدَّثنا عليّ بن عبد الله: حدثنا سفيان: حدثنا عبدة بن أبي لبابة عن زرّ بن حبيش، ح وحدثنا عاصم عن زرّ قال: سألتُ أبيَّ بن كعب، قلت: يا أبا المنذر: إن أخاك ابنَ مسعود يقول كذا وكذا، فقال أبيُّ: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: قِيلَ لي فقُلتُ، قال: فنحنُ نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ في “فتح الباري”: “هكذا وقع هذا اللفظ مُبهمًا، وكأنَّ بعضَ الرواة أبهمه استعظامًا له، وأظُنّ ذلك من سفيان، فإن الإسماعيلي أخرجه من طريق عبد الجبار بن العلاء عن سفيان كذلك على الإبهام، وكنتُ أظنُّ أوَّلا أن الذي أبهمه البخاريُّ، لأنَّني رأيتُ التصريح به في رواية أحمد عن سفيان به، ولفظه: “قلتُ لأبيِّ: إنَّ أخاك يحُكُّها مِن المصحف”، وكذا أخرجه الحميدي عن سفيان، ومن طريقه أبو نعيم في “المستخرج” وكأنَّ سفيان كان تارة يصرح بذلك وتارة يبهمه”.
أقول: سواء أكان الإبهام في اللفظ مِن ابن عيينة أو مِن البخاري، فإنه كان بإمكان إمامنا البخاري عليه الرحمة والرضوان الأخذ بالرواية المصرَّحة كغيره من أصحاب الأصول، وهي متوفّرة، ولأنه أوردها في تفسير سورة الناس وهي إحدى المعوَّذَتين، فالمقامُ مَقامُ تفسيرٍ لا إبهامٍ!، والصيغة الرسمية للرواية وَردَتْ في “مسند أحمد” وكذا الحميدي عن ابن عيينة عن عبدة عن زرّ بن حبيش أنه سأل أُبيّ بن كعب عن المعوَّذَتين فقال: إن أخاك ابنَ مسعود يحُكُّهُما من المصحف!، فقال أبيّ: سألتُ رسول الله صلی الله عليه وسلم فقال: قِيلَ لي قُلْ، فقُلْتُ، قَالَ أُبـيٌّ: فَنَحْنُ نَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
النموذج الثاني: قال البخاري: حدثنا الحميدي: حدثنا سفيان: حدثنا عمرو بن دينار، قال: أخبرني طاوس أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: بلَغ عمرَ بن الخطاب أنَّ فلانا بَاع خمرًا فقال: قاتَل الله فُلانا! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قاتل الله اليهود حُرّمَت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها”.
أقول: أخرج الحميدي شيخ البخاري في هذا الحديث هذه الرواية في مسنده – وهو مطبوع – بهذا الإسناد بلفظ: بلغ عمر بن الخطاب أن سَمُرة – وهو ابن جندب- باع خمراً، فقال: قاتل الله سَمُرة.
قال الحافظ: “كذا رواه مسلم وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة بهذا الإسناد: “أن سمرة باع خمرا، فقال قاتل الله سمرة”.
النموذج الثالث: قال البخاري: وقال الليث: حدَّثني يونس عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت: ألا يُعجِبك أبو فلان!، جاء فجلس إلى جانب حُجرَتي يحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم…الحديث.
قال الحافظ: “تبيَّن مِن رواية مسلم وأبي داود أنه هو أبو هريرة ، فأخرجه مسلم عن هارون بن معروف، وأبو داود عن محمد بن منصور الطوسي كلاهما عن سفيان، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن ابن أبي عمر عن سفيان عن هشام عن أبي يعلى وعن أبي معمر عن سفيان عن الزهري، وكذا أخرجه أبو نعيم من طريق القعنبي عن سفيان عن الزهري، فكأنَّ لسفيان فيه شيخين، وفي رواية الجميع أنه أبو هريرة”.
النموذج الرابع: قال البخاري: باب الشرب قائما: حدثنا آدم: حدثنا شعبة: حدثنا عبد الملك بن ميسرة: سمعت النزال بن سبرة يحدّث عن عليّ رضي الله عنه أنه صلّى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ثم أتي بماء فشرب وغسل وجهه ويديه وذكر رأسه ورجليه ثم قام فشرب فضله.
كذا في صحيح البخاري، ورواه غيره في المصادر الحديثية من طريق شعبة وغيره بلفظ: “ومَسَح رأسَه ورِجْلَيه” بدَل “وذكر رأسه”.
قال الحافظ: “يُؤخَذ منه أنه في الأصل “ومسح على رأسه ورجليه”، وأن آدم – هو ابن أبي إياس شيخ البخاري – توقَّفَ في سياقه فعبر بقوله “وذكر رأسه ورجليه”.
أقول: والمسح ورد في مسند الطيالسي ومسند أحمد وسنن البيهقي وغيرها من الأصول.
النموذج الخامس: قال البخاري: حدثنا خلاد بن يحيى: حدثنا مالك هو ابن مغول: حدثنا طلحة بن مصرف قال: سألتُ عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟!، فقال: لا، فقلت: كيف كتَبَ على الناس الوصيّة أو أُمِرُوا بالوصيَّة؟، قال: أوصى بكتاب الله.
كذا اختصره البخاري ولم يكمل الرواية.
قال الحافظ: “وقع في رواية الدارمي عن محمد بن يوسف شيخ البخاري به، وكذلك عند ابن ماجه وأبي عوانة في آخر الحديث: “قال طلحة: فقال هزيل بن شرحبيل: أبو بكر كان يتأَمَّر على وَصيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودَّ أبوبكر أنه كان وجَد عهدًا مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزم أنفه بخزام “
أقول: هكذا أيضًا وقع في مسند أحمد بتمامه، وفي مسند الحميدي بلفظ: “أبو بكر كان يتقدَّمُ على وصيِّ رسول الله” بدل “يتأَمَّر”، ومعناه أن يكون أبوبكر أميرًا على الإمام عليّ الوَصِيِّ مِن غير استحقاق له، وقد كان هزيل بن شرحبيل كُوفيًّا، والكوفيون معظمهم كانوا شِيعة موالين لأهل البيت كما سيأتي في الحلقة القادمة، ولكنه ثقة من رجال الجماعة إلا مُسلما.
وقد تقدَّم إنكار الصحابة لهذه الرواية أن عليًّا كان وصيَّ رسول الله، ولكن ليس معنى ذلك أننا نحذفها ولا نَرويها كما هي.
النموذج السادس: قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتَ فاطمة فلم يَجِد عَليًا في البيت فقال: أين ابنُ عمكِ؟!، قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني…الحديث.
رواه مسلم في صحيحه فقال: حدثنا قتيبة بنفس السند عن سهل بن سعد قال: استُعْمِل على المدينة رَجُلٌ مِن آل مروان فدعا سهلَ بنَ سعد، فأمره أن يَشْتُم عليًّا فأبى سهلٌ، فقال له: أما إذ أَبَيتَ فقُل: لعَن الله أبا التُّراب، فقال سهلٌ: ما كان لعَلِيٍّ اسم أحبَّ إليه مِن أبي التراب، وإن كان لَيفْرحُ إذا دُعِي بها، فقال له: أخبِرْنا عن قِصَّته، لـمَ سُمي أبا تراب؟ قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة..الحديث.
فالبخاري يبدو أنه حذف سبب ورود الحديث عَمْدًا لما يتضمَّنه مِن أَمْر أمير المدينة مروان بن الحكم -وهو والي معاوية -بسبِّ الإمام عليّ عليه السلام.
النموذج السابع قال البخاري في فضل عائشة: حدثنا آدم: حدثنا شعبة، ح وحدثنا عمرو: أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كمُل من الرجال كثير، ولم يكْمُل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وفَضْلُ عائشة على النِّساء كفَضْلِ الثَّرِيد على سَائر الطعام”.
رواه أيضا في “أحاديث الأنبياء” عن يحيى بن جعفر عن وكيع عن شعبة بلفظه، وكذا رواه مسلم من طريقين عن شعبة به بهذا اللفظ.
لكن أخرج السَّندَ الأول للبخاري الحافظُ ابنُ جرير الطبري في تفسيره فقال: حدَّثني المثنى: حدثنا آدم العسقلاني [شيخ البخاري في السَّند الأول]: حدثنا شعبة بسند البخاري نفسه: ولفظه هكذا: “كمُل من الرّجال كثيرٌ، ولم يكْمُل من النساء إلا مريم، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد”.
أقول: المثنى هذا هو المثنى بن إبراهيم الآملي الأبلي، أكْثَرَ عنه الطَّبَريُّ في تفسيره، وشيوخه هم شيوخ البخاري، ولكن قيل هو مجهول لا توجد له ترجمة، غير أن صاحب “معجم شيوخ الطبري” قال: وثَّقه الحافظ ابنُ كثير في ” تفسيره “ضمنا”.
ولكن تابعه غيره عن شعبة على هذه الصيغة بإضافة خديجة وفاطمة.
فقال الحافظ في “فتح الباري”: وقد ورد في هذا الحديث من الزيادة بعد قوله: “ومريم ابنة عمران”: “وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد“، أخرجه الطبراني عن يوسف بن يعقوب القاضي عن عمرو بن مرزوق عن شعبة بالسند المذكور هنا، وأخرجه أبو نعيم في “الحلية” في ترجمة عمرو بن مرة أحد رواته عند الطبراني بهذا الإسناد، وأخرجه الثعلبي في تفسيره من طريق عمرو بن مرزوق به، وقد وَرد مِن طريق صحيح ما يَقتضي أفضليَّة خديجة وفاطمة على غيرهما، وذلك فيما سيأتي في قصَّة مريم من حديث عليّ بلفظ: “خير نسائها خديجة”، وجاء في طريق أخرى ما يقتضي أفضلية خديجة وفاطمة، وذلك فيما أخرجه ابن حبان، وأحمد، وأبويعلى، والطبراني، وأبو داود في “كتاب الزهد”، والحاكم كلهم من طريق موسى بن عقبة عن كريب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون”، وله شاهد من حديث أبي هريرة في “الأوسط” للطبراني، ولأحمد في حديث أبي سعيد رفعه: “فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران”، وإسناده حسن” إهـ.
فإن قيل إن الثقات من أصحاب شعبة بن الحجاج رووا الحديث من دون ذكر خديجة وفاطمة، وأن هذه الرواية الزائدة شاذة، ورواية الصحيحين محفوظة، فإنه يُجابُ عن ذلك بأمرين:
الأول: أن آدم ابن أبي إياس الذي روى عن شعبة: رُوِي عنه باللَّفظَين، رواه عنه البخاري بالنَّقْصِ، والمثنَّى بن إبراهيم بالزيادة.
الثاني: أن إضافة خديجة وفاطمة لها شواهد صحيحة عن صحابة آخرين غير أبي موسى، فروى أحمد والترمذي عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “حَسْبُك مِن نساء العالمين بِأَربعٍ: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد” وإسناده صحيح، ولها شواهد أخرى ذكرها الحافظ آنِفًا، ولهذا لم يُضعِّف الحافظ ابن حجر هذه الإضافة بل أكَّد عليها بقوله: “وقد ورد مِن طريق صحيح ما يقتضي أفضليَّة خديجة وفاطمة على غيرهما”.
وكل هذه النماذج دليل واضح على التصرُّف في الألفاظ بالنقص والتقطيع والإبهام، والبخاري جعلناه نموذجا لمئات سبقه من الحفاظ والرواة الثقات منذ فترة التابعين.
هوامش:
(1) هدي الساري، الطبعة السلفية القديمة ص: 17.
……………………………………….
في الحلقة التالية: تكملة أسباب عدم إفادة الخبر الواحد للعِلْم القطعي.