تكملة أسباب عدم إفادة الخبر الواحد للعِلْم القطعي
السبب الثالث: شيوع الأغلاط والوَهْم والكَذِب في مدة تزيد عن مائة عام قبل تدوين الرواية وقبل ظهور علم الجرح والتعديل:
في نهايات القرن الأوَّل الهجري بعد ذَهاب عَصْر التحفُّظ للصَّحابة استفحلت ظاهرة الرواية وشاعت، وظهر عَصْرٌ جديد يختلف عما سلكه كبار الصحابة وجهابذة التابعين إزاء التعامل مع المرويَّات، ونُسِبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقوالٌ كثيرة جدًّا بعضُها كَذِبٌ، وبعضُها مُجتزؤ، وبعضها مَقْلُوبٌ، فكان الناس يَنسِبون كلَّ شيء يَرونه جَميلا حسب نظرتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة مِن الفِرَق الإسلامية الوليدة، وذلك قبل أن يوجد علم البحث عن الرواة والبحث عن اتصال السند والتحقق من النصّ المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
روى الخطيب في “الكفاية” عن عبد الله بن يزيد المقرئ قال: حدَّثَنا ابن لهيعة قال: سمعتُ شيخًا مِن الخوارج تَابَ ورجع وهو يقول: إنَّ هذه الأحاديث دِينٌ، فانظروا عمن تأخذون دينكم، فإنَّا كنَّا إذا هَوَيْنا أمرًا صيَّرناه حديثا!.
وهذا ردٌّ على قول كثير من أَهل الحديث بأن الخوارج كانوا مِن أهل الصِّدق، حتى قال أبوداود السجستاني: “ليس في أهل الأهواء أصَحُّ حدِيثًا مِن الخوارج”.!!
وقال أبو العباس المبرّد في كتابه “الكامل”: “والخوارج في جميع أصنافها تَبرأ مِن الكاذب ومِن ذي المعصية الظاهرة”.
ولهذا قال الإمام ابن تيمية في “منهاج السنَّة”: “إن الخوراج ليسوا ممَّن يتعمَّد الكَذب، بل هم معروفون بالصِّدق حتى يُقال: إنَّ حديثهم مِن أصح الحديث، وهم أصَحُّ منهم عَقلا وقَصدا، والرافضة أكذَبُ وأَفسد دِينا”!!.
وهذا تقليد منه لمن سبقه، فلا يطَّرد هذا الوصف على جميع الخوراج، كما لا يطَّرِد نسبة الكَذب على جميع الشيعة، وغيرهم.
ولهذا انتبَه الحافظُ ابن حجر لهذه الخطورة ومَكْمَنِها فقال في كتابه “لسان الميزان” بعد نَقْله قول ابن لهيعة: “وهذه واللهِ قاصمة الظَّهر للمُحتجّين بالمراسيل، إذ أن بدعة الخوارج كانت في صَدْر الإسلام والصحابة متوافرون، ثم في عَصر التابعين فمَن بعدهم، وهؤلاء كانوا إذَا استَحسنوا أمرًا جعلوه حديثًا وأشاعُوه، فربَّما سمعه الرَّجل السُّنيّ فحدَّثَ به، ولم يَذكُر مَن حدَّث به تحسينًا للظّن به، فيحمِلُه عنه غيرُه ويجئ الذي يحتجُّ بالمقاطيع، فيحتج به ويكون أَصله ما ذكرتُ، فلا حول ولا قوة إلا بالله”!!.
لكن المراسيل والمقطوعات أيضا كانت تتحول إلى مسانيد متصلة.!!
جُرأة الإمام شعبة بن الحجَّاج في كشف بعض الحقائق وتجرُّده من المذهبية والتعصُّب مع كونه بَصريًّا:
إن استفحال ظاهرة الرواية أوائل القرن الثاني من غير ضابط علمي كانت مشكلة كبيرة أثَّرت في الظاهرة الروائية الحديثية حتى فيما بعد عصر التدوين وبعد وَضْع عِلْم أصول الرواية والجرح والتعديل، وقد نوَّهنا على جزء كبير منها في المحور الثالث، ولذلك كان شعبة بن الحجاج الواسطي البصري من أوائل مَن عاصر هذه الظاهرة من عام 85 هـ إلى عام 150هـ وفتَّش عن المرويّات ورُواتها وسَبرها فترةً طويلة، فعرَف مَكمن الحقائق على واقع الأرض، حتى قال تلميذه يزيد بن هارون: لولا أن شعبة أراد الله عز وجل ما ارتفع هكذا، أي الكلام على الرجال وتفتيش الأحاديث، رواه ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه “الجرح والتعديل”.
وقد كشف الإمام شعبة أن بعضَ متأخِّري الصحابة كأبي هريرة كان يُدَلّس في الرواية كما سبق، وهذا مما لا يتجرَّأ عليه أحدٌ بعده!.
أما قول الشيخ المعلّمي في “الأنوار الكاشفة”: أن قول شعبة هذا “حكاية شاذة لا أدري كيف سَندها إلى يزيد، ويقع في ظنّي إن كان سندها صحيحاً أنه وقع فيها تحريف، فقد يكون الأصل “أبو حرة”، فتحرَّفت على بعضهم فقرأها “أبوهريرة”، وأبوحرة معروف بالتدليس”.
أقول: روى قَول شعبة بهذا اللفظ الحفَّاظ: ابنُ عدي، وابن عساكر، وحكاها بحرفها الذهبي وابن كثير وغيرهم وهم حفَّاظ أفذاذ، بل علَّق الذهبي على تدليس الصحابة، ووجَّه ابن كثير مراد شعبة، فكيف تكون هذه المقولة محرَّفة؟، بل غاية ما فيها أنها رأيٌ لشعبة، يمكن قبولها منه أو ردّها عليه.
التشدُّد في القبول بالرواية بدأ به الرُّواة الكوفيون قَبل غيرهم ولكنهم دفعوا الثمن:!
كان أهل الكوفة من الفقهاء والمحدّثين مِن أوائل من كان يتشدّد ويستوثق في الرواية كما نقلناه عن الدكتور طه العلواني، وكان معظمهم على مذهب التشيُّع السائد في الكوفة أي تَفْضِيل الإمام عليِّ وأَهْل البيت على غيرهم، وليس التَّشيُّع الإمامي الغالي أو التشيُّع السَّلبي، وكان فقهاؤهم أهل رأي، وكانوا لا يقبلون بروايات أبي هريرة، كما نقلنا عن الإمام إبراهيم النخعي بأسانيد صحيحة.
وقد بدأ التفتيش عن سماع الراوي للحديث وعلم الرجال لأوَّل مرَّة منذ قَرن عَبد الغفار بن القاسم أَبُو مريم الأنصاري الكوفي، وعنه أخذه شعبة التفتيش، لكن قال الذهبي في “الميزان”: رافضِيٌّ ليس بثقة!.
قال ابن عدي: سمعتُ أحمد بن مُحَمد (هو الحافظ ابن عقدة) يُثني عَلَى أَبِي مريم ويطريه، وتجاوز الحدَّ فِي مدحه حتى قَال: لو انتشر عِلم أَبِي مريم وخرَج حديثه لم يَحتج الناس إِلَى شُعْبَة، ثم قال ابن عدي: ابن عقدة شيعي يميل إلى أبي مريم، ولكن ابن عقدة حافظ إمام مصنّف.
وروى أحمد في “العلل-رواية المروذي” عن شعبة أن أبا مريم لو قال لأحد: مَن حَدَّثك أم كيف سَمعت؟ للَطَم عَينه!.
يعني أن عبد الغفار كان أوَّل مَن مَارس السؤال عن الرَّاوي: هل سمعتَ هذا عن فلان؟!، ولكن تم هَجْره لمذهبه، فقال أحمد بن حنبل: كان أبو عبيدة إذا حدَّثنا عن أبي مريم يَصيحُ الناسُ يقولون: لا نريده.
وروى العقيلي في “الضعفاء” أن الإمام أحمد سُئل: أبو مريم مِن أين جاء ضعفه؟ مِن قِبَل رأيه أو مِن قبل حَديثه؟! قال: مِن قِبَل رأيه، ثم قال: وقد حدَّثَ ببلايا في عثمان أَحاديث سوء.
ولكن الإمام شعبة أخذه عنه هذا العلم وأشاعه في البصرة وفي غيرها، وعنه أخذ علم الجرح والتعديل، فما هي شخصية الإمام شعبة ومميّزاته عن علماء الحديث، وما الحقائق التي كان يعتقدها؟!!.
أخرج ابن عدي في مقدّمة “الكامل” عن حمزة بن زياد الطوسي قال: كان شعبةُ أَلْثَغ(1)، وكان شيعيًّا، وكان يقول: وَيهْ وَيهْ لو حدَّثتُكُم عن ثِقَةٍ ما حدَّثْتُكُم عن ثلاثة.
وأخرج ابن عدي وابن أبي حاتم في “مقدمة الجرح” عن جرير بن عبد الحميد قال: لما ورَد شُعبة البصرة، قالوا له: حدِّثْنَا عن ثِقات أصحابك؟!، قال: إن حدَّثتُكُم عن ثقات أصحابى فإنما أُحدّثَكم عن نفَرٍ يسير مِن هذه الشِّيعة: الحَكَم بن عتيبة، وسَلَمة بن كهيل، وحبيب بن أبى ثابت، ومنصور بن المعتمر.
أقول: وهؤلاء كانوا من مُحدِّثي الكوفة، واحتجّ بهم أرباب الصحيح، ولكنهم كانوا من شيعة الكوفة.
وروى الذهبي في ترجمة حماد بن سلمة من “ميزان الاعتدال” عن الحسن بن سفيان: حدثنا هدبة، قال: صلَّيتُ على شُعبة، فقيل: أرأيته؟ فغضب، وقال: رأيتُ حماد بن سلمة وهو خيرٌ منه، كان سٌنّيًا، وكان شعبة رأيه رَأي الكوفيين.
ووقع في “سِيَر أعلام النبلاء” و”كامل ابن عدي”: وكان شعبة رأيه رأي الإرجاء.
وقد خالفَ شعبةُ علماء أهلَ الحديث – ومَنْبَعُهُم من البصرة – في تضعيف بعض الكوفيين الشّيعة لأجل المذهب مِنها توثيقه للحارث الأعور صاحب الإمام عليّ، وتوثيقه لجابر بن يزيد الجعفي الذي كذَّبه عامة أهل الحديث، وروايته عن ثُوير ابن أبي فاختة الكوفي الشيعي، الذي ضعفه أهل الحديث لمذهبه كما قاله يونس ابن أبي إسحاق، وقال الحاكم في “المستدرك”:” ثوير لم يُنقَم عليه غير التَّشيُّع”!!، وكذا توثيق شعبة لعَبد الغفار بن القاسم أَبُو مريم الأنصاري الكوفي الشِّيعي الذي كان أخذ شعبة عنه التفتيش بالسماع كما سبق آنفا.
فقد روى ابن أبي حاتم عن أبيه قال في عبد الغفار: هو متروك الحديث كان من رُؤساء الشيعة، وكان شعبة حسَّن الرأى فيه، لا يكتب حديثه، وقال أبو زرعة: ليّن، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن المديني: كان يضع الحديث.
وفي لسان الميزان: “قال شعبة: لم أَرَ أحفظُ مِن عبد الغفار، قال أبو داود: وغلط في أمره شعبةُ، وقال الدارقطني: متروك وهو شَيخُ شعبة أثنى عليه شعبة وخَفِي على شعبة أمرُه فبقي بعد شعبة فخلط.
وروى العقيلي أن الإمام أحمد سُئل: عبد الغفار مِن أين جاء ضعفه؟ من قِبَل رأيه أو مِن قبل حَديثه؟! قال: مِن قِبَل رأيه.
ووثَّق شعبةُ أيضا قيس بن الربيع الأَسَدي أبو محمد الكوفي الشيعي الجوَّال، وروى عنه بل كان يثني عليه، وكان يقول: ارتحلوا إلى قيس قبل أن يموت، وقال لأبي داود الطيالسي: عليك بهذا الأسَدي، وقال شعبة: مَن يعذُرني مِن يحيى الأحول هذا (يعني يحيى القطان) فإنه لا يَرضَى قيس بن الربيع ويَقعُ فيه، لأن القطان، وابن مهدي، وأحمد، وابن معين ضعَّفُوه لأنه كان شيعيا كما صرحه أحمد.
أقول: كان شعبة يرفض التضعيف بالمذهب والرَّأي الذي يعتقده الراوي، ولهذا اعتمد على معظم الرُّوَاة الكوفيين وروى عنهم، ولذلك تقرر أن كل مَن روى شعبة عنهم فهو ثقة، وإذا راجعتَ البَحْث الموسوم: (شيوخ شعبة الذين ضعَّفهم الإمام أحمد)، للدكتور عبد العزيز صالح اللحيدان، تجد أن تلك الدراسة أثبتت أن معظم مَن ضعَّفهم تلامذة شعبة مثل يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم وأبو زرعة، وابن معين فإنهم كانوا من الرُّواة الكوفيين.
التضعيف المطلق للمتشيّعين ولو كانوا أئمة أعلام!:
طبعا لا نتحدَّث عن الرواة الإمامية أو الشيعة الاثناعشرية، فإن فيهم غُلوًّا، وإنما نتحدث عن تابعي أهل الكوفة وتابعيهم الذين كانوا من الشِّيعة المفضّلين لعليٍّ، ويقدِّمونه على الشَّيخين أو على عثمان، وربما يَنتقدون بَعض مُبغضيه أو حَاربه.
ذكر صاحب كتاب (العَتب الجميل على أهل الجرح والتعديل)، وهو الشيخ العلامة محمد بن عقيل الحضرمي الحسني الشافعي، أن أهل الحديث تكلموا في أئمة العترة: أمثال الإمام جَعفر الصادق تكلَّم بعضهم فيه، وهو الإمام المعروف المهاب عنه، فقال يحيى القطان: في نَفْسي منه شَيء، وقال البخاري: كان يحيى بن سعيد يُضعّفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه، ولهذا قال الإمام ابن تيمية: وقد استَرابَ البخاريُّ في بعض أحاديثه، فلم يُخرج له شيئا في صحيحه، وتكلموا في ابن عمه الحسين بن زيد بن علي قال أبو حاتم الرازي: تَعرف وتُنكر، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن المديني: فيه ضَعْف.
وتكلَّموا في الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية حفيد الحسن بن علي السبط: قال أبو داود: قال أبوعوانة: كان محمد وأخوه إبراهيم خَارجيَّان، أي خرجا على الخليفة أبي جعفر المنصور.
وضعَّف أهل الجرح والتعديل أيضا الحُرَّاس الشَّخْصِيّين للإمام علي ابن أبي طالب والمقرَّبين منه، مثل أصبغ بن نباتة التيمي الكوفي، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن حبان: فُتِن بحُبِّ عليّ، ووثقه العجلي، وقال الجوزجاني: زائع، أي: شيعي على اصطلاحه.
وضعفوا ثعلبة بن يزيد الحماني الكوفي كان على شُرطة الإمام عليّ أيضا، قال ابن حبان: كان غاليا في التشيّع، لا يُحتجُّ بأخباره، وقال البخاري: فيه نظر، ووثَّقه النسائي.
وضعفوا أيضًا حبَّة بن جُوين العرني صاحب الإمام عليّ الذي لازَمَه وقاتل معه في صِفّين، قال البخاري: ذُكِر عنه سُوء مَذهب، وقال ابن حبان: كَانَ غاليا فِي التَّشَيُّع واهيا فِي الْحَدِيث، وقال ابن عدي: قد أجمعوا على ضعفه، وقلَّمَا رأيتُ في حديثه منكرا قد جاوز الحدَّ إذا روى عنه ثقة.
قلت: إذا كان حديثه غير منكر في الغالب فَلِمَ تمَّ تضعيفه مطلقا؟!!، مع التنويه بأن أحمد والعجلي وثقاه.
وضعفوا الحارث بن عبد الله الأعور الفقيه الإمام الكوفي عالم الكوفة صاحب عليّ، وتقدَّم مرارا في دراستنا، خاصة عند ذكر تشديد الصحابة في الرواية فارجع إليه.
قال الشيخ ابن عقيل في “عَتَبه” على أئمة الجرح والتعديل: “بل رأيتُ فيها جَرح بعضهم لبعض الأئمَّة الطَّاهرين بما لا يسوغُ الجَرح به عند المنصِفِين، أو بما يحتملون ما هو أشدُّ منه بمراتِبَ للخَوارج والنَّواصِب، رأيتُهُم إذا ترجَّموا لسادات أهل البيت أو لمن تعلَّق بهم اختزلوا الترجمة غالبا وأوجزوا، وإذا ترجَّموا لأَضدادهم أو لأَذنابِ أَعدائهم أطالوا، ولِعُذرِهم أَبرزُوا، ورأيتُ فيها تَوثيقهم للناصبي غالبا، وتَوهِينُهُم للشّيعي مُطلقا، فهَالَني هذا الصَّنيع، وأَفْظَعني هذا الحُكم، واستَغربتُه كلّ الاستغراب، وقلتُ: إن هذا لهو التَّباب، غير أنه ظهر لي أن لِكَثير من المتقدّمين بعضَ أعذار سوَّغت لهم ما سوَّغت، وقلَّدهم المتأخِّرون هَيبة الانفراد عنهم، وفَرَقًا [يعني هربا] مِن أن يُنبَزُوا بالرَّفْضِ، وقد كان في بعض الأعصار خَيرٌ للإنسان أن يُتَّهم بالكُفر فضلا عما دونه مِن أن يُتّهم بمولاة عليٍّ وأهل بيته عليهم السلام، ولهذا قال ابن حجر العسقلاني في كتابه” تهذيب التهذيب”: “وقد كنتُ استَشْكَلتُ تَوثيقهم الناصبيَّ غالبا، وتوهِينهم الشيعة مطلقا…إلخ”.(2)
أقول: والحمد لله، فنحن تجاوزنا الخوف من التُّهمة بالتّشيُّع فنضطرُّ للتقليد والنَّقل والحكاية فقط، مادام تَهمُّنا الحقيقة والبحث العلمي.
نقد الإمام شعبة للظاهرة الروائية:
كان شعبة ينقَم على الظاهرة الرّوائية في عصره ويمنع البعضَ مِن تحديثهم؛ بل اشتهر في أواخر أيامه من امتعاضه عن أهل الحديث، فروى أبو نعيم في “حلية الأولياء” عن مسدّد قال: سمعتُ يحيى بن سعيد القطان يقول:كنتُ عند شعبة بن الحجاج، ورجلٌ يسأله عن حَديثٍ فامتنع، فقلتُ: لـِمَ لا تحدِّثُه؟ قال: هؤلاء قُصَّاص يَزِيدُون في الحديث.!
أقول: كان شعبة من نوادر مَن برز في فَحْص المرويات الحديثية في أواسط النصف الأول من القرن الثاني الهجري بعَقْلٍ وفِكرٍ مُتحرِّر، وتقييم مُستقلّ، وبَحْث واستقصاء واستنتاج وتجرُّدٍ للحقّ مِن غير مَيل إلى التمذهب الفكري والتقليد، وإن كان لا يخلو في التشدد في بعض الرواة، ولذا لقَّبه سفيان الثوري بأمير المؤمنين في الحديث، وقد توصَّل إلى نتيجة صَعْبة على نفوس كثير منا:
فروى الخطيب في “الجامع في آداب الرواية” وأورده الذهبي في “السِّيَر” عن أبي العباس المبرد: أخبرنا يزيد بن محمد بن المهلب المهلبي: حدثني الأصمعي قال: سمعتُ شعبة يقول: ما أعلم أحداً فتَّشَ الحَدِيث كتَفْتِيشي؛ وقَفتُ على أنَّ ثلاثة أرباعه كَذِبٌ.
وقد نقل ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن شعبة أنه قال: تسعة أَعشار الحديث كَذِب، ولكن لا سند لهذه الرواية، وقد تسَرَّع أحدهم في الرّد على ذلك فذكر أن هذا النَّقْل مِن شعبة لا أصل له بسند صحيح ولا ضعيف ولا باطل، وأنه من اختراعات أهل الأهواء والبدع من الذين لا أمانة علمية عندهم، أقول: بل إنه ورد عنه بلفظ “ثلاثة أرباعه” لا “تسعة أعشاره”.
لم يكن شعبة مقتنعا بالنَّقد النَّظَري للرواة وأحاديثهم وحده، ولا بالاقتصار على الرواية عن الثقات عنده وحدها، ولا بمجموع هذين الأمرين وحدهما؛ بل كان ناقداً يباشر النَّقد عمليًا، بحيث كان يجيءُ إلى الرجلِ الذي لا يَصلُحُ للتَّحديث، فيَمنَعُه، ويقول له: لا تحدِّثْ وإلّا استَعْدَيتُ عليك السلطانَ، رواه ابن أبي حاتم.
وكان شعبة ينتقد في بعض الأحيان سلوك أهل الحديث ويعاتبهم، ويثني على سلوك أهل القرآن، فروى أبو نعيم في “الحلية” عن أبي الوليد قال: سمعت شعبة يقول: “ما رأيتُ مثل إمامِنا هذا، يَقرأ عليَّ القرآنَ ولا أَحفَظُه، وأقْرَأ عليه الحديث فلا يحفظه!!.
ثم قال أبو نعيم: حدثنا إبراهيم بن عبد الله: ثنا محمد بن إسحاق: ثنا محمد بن رافع: سمعت أبا قتيبة سلم بن قتيبة يقول: ربما قال شعبة في الحديث لأصحاب الحديث: اعلَموا يا قومِ أنَّكم كلَّما تقدَّمتُم في الحديث تأخَّرتم من القرآن، قال: وربما ضرب بيَدَيه رأسَهُ وهو يقول: خاك بسر شعبة ـ يعني: التراب على رأس شعبة.
أقول: ويبدو أنها كلمة فارسية.
وروى ابن عبد البر في “جامع العلم” عن ابن أبي عدي قال: سمعتُ شعبة يقول: كنتُ إذا رأيتُ رَجلا مِن أهل الحديث يَجيءُ، أَفرح به، فصِرْتُ اليوم ليس شيء أبغَضُ إلا مِن أن أرى واحدا منهم.
أقول: وعلى قوله هذا تُحمَل عبارته الشهيرة لأهل الحديث:”إنَّ هذا الحديث يصدُّكُم عن ذِكر الله وعن الصلاة فهل أَنتم مُنتهُون”، رواه عنه جماعة من طلبته، رغم أن بعض أهل العلم أوّلوها بصَرف الحديث وتشغيله عن العبادة.
فروى الخطيب عن أبي خليفة قال: سمعت أبا الوليد يقول: سمعت شعبة يقول: إنَّ هذا الحديث يصدُّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون، قال أبو خليفة: يريد شعبة رحمه الله أنَّ أهله يضيّعون العمل بما يسمعون منه، ويتشاغلون بالمكاثرة به أو نحو ذلك، والحديث لا يَصُدُّ عن ذِكر الله، بل يَهدي إلى أمر الله.
وروى الخطيب أيضا عن ابن هاني قال: سمعتُ أبا عبدالله يعني أحمد بن حنبل وسُئل عن قول شعبة: “إن هذا الحديث يصدُّكم عن ذكرالله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون”، فقال: لعلَّ شعبة كان يصوم، فإذا طلب الحديث وسعى فيه يَضْعُف فلا يصوم، أو يريد شيئا مِن أعمال البرّ فلا يَقدر أن يفعله للطلب، فهذا معناه.
ولكن للحافظ ابن عبد البر تأويل معقول لقول شعبة فقال: بلغني عن جماعة من العلماء إنهم كانوا يقولون إذا حدثوا بحديث شعبة هذا: وأيُّ شيء كان يكون شعبة لولا الحديث!!.
ثم قال ابن عبد البر: إنما عابوا الإكثار خوفًا من أن يَرتَفِع التدبُّر والتفهم .. وقد جرى بين الأعمش وأبي يوسف وأبي حنيفة، فكان من قول الأعمش: أنتم الأطبــاء ونحن الصيادلة، ومِن ههنا قال الزبيدي: إنَّ مَن يحمل الأحاديث ولا يعرف فيه التأويل كالصيدلاني، وروى عن يحيى بن يمان قال: يَكتُب أَحدُهُم الحديث ولا يتفَهَّم ولا يتدَّبر، فإذا سُئل أحدهم عن مسألة جلس كأنه مكاتب”! .(3)
وعلى أية حال، فإن عبقرية الإمام شعبة وإدراكه للحقائق الكامنة جعلته رجلا سابَقَ أقرانه وأَمثاله وأضرابه بفطنته وبحثته ونتائجه وسُرعة بديهته، وتوصَّل إلى أن هذا الإكثار والمبالغة في هذه المرويات الحديثية التي ليست مُعظمها ثابتةً قَطْعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم تجعل الشخص سَاذجا، قَليل الفهم، قَليل التدبر لكتاب الله العزيز، بل تحجب عنه، فلا يصل نور القرآن إلى قلبه!، وهذا يذكِّرُنا بسبَب مَنْع تَدْوِين الحديث في العهدين النبوي والراشدي، وتقليل معظم الصحابة للرواية، بل وأَمْرِهِم بالتقليل، فارجع إلى ذاك المحور وتدبَّر!.
هوامش:
(1) الألثغ: من يقلب في نطقه حرفًا بحرفٍ آخر، كأن يجعل السِّينَ ثاءً أو الرَّاءَ غَيْنًا (المعاجم).
(2) العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل ص: 20-24.
(3) جامع بيان العلم وأهله 2/131.
……………………………………….
في الحلقة التالية: عدالة الصحابي في روايته عند الصحابة