المحور التاسع
عدالة الصحابي في روايته عند الصحابة
تُعـدّ نظرية عدالة الصحابة مِن أهمّ النظريّات التي يقوم عليها علم رواية الحديث عند أهل السُّنة وغيرهم من الفِرَق الإسلامية، وهي من المسائل التي اشتدَّ النقاش عليها بين الطوائف الإسلامية، حيث يرى غالبية أهل السنة أن الصحابة مقطوع لهم بالعدالة في الرِّواية، ومقطوع لهم أيضا بالجنة، في حين ترى طوائف الشيعة وبعض المعتزلة أنَّ من انحرف عن الإمام عليٍّ لا يكون ثقة، أو مَن تلبَّس بالفتنة أو ظهر فِسقه على خلافٍ فيما بينهم ما بين مُتشدد ومُتوسِّط.
ولكن نريد في هذه الدراسة أن نتناول هذه النظرية من وجهة نظَر الصحابة أَنفُسهم، ونَدرُسها علميًّا، فقَبْلَ أن نتطرَّق إلى هذا الموضوع نحدِّد مَن هُو الصحابي؟!.
هناك اختلاف حول مفهوم “من هو الصَّحابي” كي تَنْبَنِي عليه العدالة، فجمهور أهل الحديث وسَّعُوا هذا المفهوم جدًّا، وأدخلوا فيه كلَّ مَن رأَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤمنًا ومات على الإسلام، حتى وإن تخلَّل ذلك رِدَّة، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدّمة كتابه”الإصابة في تمييز الصحابة”: “هذا التعريف مبنيّ على الأصحّ المختار عند المحققين، كالبخاري، وشيخه أحمد ابن حنبل، ومن تبعهما، ووراء ذلك أَقْوَال أخرى شاذَّة، كقول مَن قال: لا يُعدُّ صحابيا إلّا مَن وُصِف بأَحد أوصاف أربعة: مَن طالت مجالسته، أو حُفِظت روايته، أو ضُبط أنه غزا معه، أو استشهد بين يديه”.
في حين أن معظم الأصوليين من الفقهاء اشترطوا للصُّحبة الملازَمة الطويلة، مثل الإمام الماوردي الذي استشرط للصحابي أن يتخصَّصَ بالرسول، ويتخصَّصَ به الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الزركشي رحمه الله: قال ابن السمعاني: “الظاهر أن الصحبة مَن طالت صُحبته مع النبي صلى الله عليه وسلم وكثُرَت مُجالسته له، وينبغي أن يُطيل المكث معه على طريق التتبع له والأَخْذِ عنه، ولهذا يُوصف مَن أطال مُجالسة أهل العلم بأنّه مِن أصحابه، ثم قال: هذه طريقة الأصوليّين، أما عند أصحاب الحديث فيطلقون اسم الصحابة على كلِّ مَن روى عنه حَديثاً أو كلمة، ويتوسَّعون حتى يَعدُّون مَن رآه رُؤيةً مَّا من الصحابة، وهذا لِشَرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أعطَوا كلَّ مَن رآه حُكم الصحابة”(1).
تعريف الصحابة وكبار التابعين معنى “الصُّحْبة للنبي”:
روى ابن سعد في “الطبقات” بسند جيّد من طريق شعبة عن موسى السيلاني وأثنى عليه خيرًا قال: أتيتُ أنسًا بن مالك فقلتُ له: أنتَ آخِر مَن بَقِي مِن أَصْحَاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فقال: قد بَقيَ قومٌ من الأَعراب قد رَأوه، وأمَّا مَن صَحِبه فأنا آخِر مَن بقي”.
أقول: هذا هو التعريف الصحيح الذي نطق به الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو الأقرب لتعريف الأصوليين.
وروى الخطيب في “الكفاية في علم الرواية” عن سعيد بن المسيب وهو من كبار التابعين وفقهائهم أنه قال: “الصحابة لا نَعدُّهم إلا مَن أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سَنة أو سنتين، وغزا معه غَزوة أو غزوتين”.
أما نَقْلُ الحافظ ابن حجر عن العراقي تضعيفه لهذا الأثر لأن فيه محمد بن عمر الواقدي ضعيف في الحديث، فغير مسلَّم به، فالواقدي مختلف في توثيقه، حيث ضعفه كثيرون، ووثقه أيضًا كثيرون، والراجح توثيقه عند كاتب هذه السطور.
وروى الخطيب أيضا عن عاصم الأحول وهو من صغار التابعين، قال: رَأى عبدُ الله بن سرجس النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم تَكُن له صُحبة.
قال ابن عبد البر: أراد الصُّحبة الخاصة، وإلا فهو صحابي صحيح السماع من حديثه عند مسلم وغيره: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وأكَلْتُ معه خبزا ولحما.
تعريف القرآن والسُّنة للصحابة:
قال سبحانه تعالى في كتابه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنهُ ورَضُوا عنه}، فقسَّم مَن رَضِي عنهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: المهاجرين، والأنصار، والتابعين لهم بإحسَانٍ، وكذا قسَّمهم في سورة الحشر التي نزلت قبل سورة التوبة بخَمس سنين تقريبا: (المهاجرين، والأنصار، واللاحقين لهم) وهم التابعون لهم بإحسان.
ويصدق على ذلك حديث أبي سعيد الخدري قال: لَمَّا كان يوم الفتح [الحديبية كما سيأتي] قرأ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ} فقال: “الناس حَيِّزٌ، وأنا وأصحابي حيِّز”، فغضِب مروان بن الحكم، وأراد أن يضربَ أبا سعيد الخدري، فلمَّا رأى ذلك رافع بنُ خديج، وزيد ابنُ ثابت قالا: صدق أبو سعيد، رواه أحمد وابن أبي شبية بإسناد على شرط الشيخين.
وروى ابن جرير الطبَّري وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم”، فقلنا: مَن هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا، ولكن أهل اليمن، هم أرقُّ أفئدة، وأَلْيَن قلوبًا، قلنا: أَهُم خيرٌ منا يا رسول الله؟ قال: “لو كان لأَحَدِهم جَبل مِن ذهب فأنفقه، ما أَدْرَك مُدَّ أَحَدكم ولا نصيفه، أَلَا إنَّ هذا فَصْلُ ما بيننا وبين الناس: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا}.
وعلى هذا ففيه ردّ على مَن استدلَّ بهذه الآية على من ينطبق عليه مصطلح الصحابة عند المحدِّثين، لأن الله وعَد الحُسنى كلَّ مَن أنفق في سبيل الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، سواء أنفق من قبل الفتح وبعده، والبَعْدِيَّةُ في الآية مطلقة.
ويؤكد على حديث أبي سعيد ما استفاض في الروايات أنه كان بين خالد بن الوليد الذي أسلم بعد الحديبية، وبين عبد الرحمن بن عوف من السابقين إلى الإسلام ما يَحدثُ بين الناس من المنازعة، فسبَّه خالدٌ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “دَعُوا لي أَصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُد ذَهبا لم يدرك مد أحدهم ولا نصيفه”، وفي رواية أبي سعيد لهذه القصة – وقد رواه معه عدد آخرون -: “لا تَسُبُّوا أصحابي، فلو أنَّ أحدَكم أَنْفَقَ مثل أُحُد، ذهَبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحدهم، ولا نَصِيفَه”.
ولذلك فللصحبة عند النبي صلى الله عليه وسلم تعريفان: الصحبة الخاصة، وهم المعنيون بالتعريف الشرعي، والصحبة العامة أي: الأتباع، وهم كل من حضر معه الجمعة والغزوات وإن كانوا مؤمنين أو منافقين، ولهذا جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قَتْل أَحَد المنافقين وهو ابنُ أبيّ عندما قال: لئن رَجَعْنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذَلَّ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دَعني يا رسول الله، أضرب عنق هذا المنافق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “دَعهُ، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”، قال الحافظ: أي أتباعه.
واشتهر عند معظم أهل الحديث والفقه من أهل السنة الاستدلال بحديث: “لا تَسُبُّوا أصحابي، فلو أنَّ أحدَكم أَنْفَقَ مثل أُحُد” إلخ، بأنه للصحبة العامة على اصطلاح المحدِّثِين، وهو خطأ إذا نظرنا سبب وروده.
تعديل رواية الصحابي مطلقا:
جزم أهل الحديث على أن الصحابة – بتعريفهم السابق – كُلهم عدول، فقال الحافظ الذهبي: “الصحابة رضي الله عنهم بِسَاطُهم مَطْوِيٌّ، وإن جرى ما جرى، إذ على عدالتهم وقَبول ما نقلوه العَمَلُ، وبه ندين الله تعالى”.
وقال الحافظ ابن حجر في مقدّمة “الإصابة”: اتَّفق أهل السنّة على أنَّ الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة”، وقال ابن الأثير في “الأُسْدِ”: كلُّهُم عُدول لا يتطرَّق إليهم الجرح”.
وقال ابن الصلاح:” الأمّة مُجمِعة على تعديل جميع الصحابة، ومَن لَابَس الفِتن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحساناً للظن بهم”.
أقول: ولكن دعوى الإجماع من أهل السنة فيه نظر.
فقد قال ابن الحاجب في “مختصر الأصول”: “الأكثر على عدالة الصحابة، وقيل: هم كغيرهم، وقيل قول ثالث: إلى حين الفتن، فلا يُقْبَل الداخلون، لأنّ الفاسق غير معيّن”.
وقال المازري أحد فقهاء المالكية المجتهدين في “شرح البرهان”: “لَسْنَا نَعني بقَولنا: “الصحابة عُدول” كلَّ مَن رآه صلى الله عليه وسلم يومًا ما، أو زاره لمامًا أو اجتمع به لغَرضٍ وانصرف، وإنما نعني به الذين لازموه وعزَّرُوه”.
وتعقَّبه الحافظ في “الإصابة” فقال: “ولم يُوفَّقِ المازري على ذلك، ولذا اعترضه غَير واحد من الفضلاء، وقال العلائي: إنه قول غريب يُخْرِج كثيرًا مِن المشهورين بالصُّحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر، ومالك بن الحويرث، وعثمان بن أبي العاص، وغيرهم ممن وفد عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقِمْ عنده إلا قليلا وانصرف، وكذلك من لا يُعرف إلا برواية الحديث الواحد، أو لم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل”.
القول المختار في عدالة الصحابة:
القول المحقق في عدالة الصحابة هو ما حققه الإمام المحقق الأمير الصنعاني صاحب “سبل السلام” فقال:”اعلَمْ أن الذي نختاره أن الأَصل هو عدالة الصحابة، إلا مَن ظهر اختِلالها منه بارتكابه مُفسِّق، وهم قليل، وهذا الذي ذهب إليه أئمة أهل البيت، والمعتزلة، واختاره المهديُّ [من الزيدية] في “شرح المعيار”، وهو كلام الباقلاني من الأشعرية، وقال المعتزلة: هم عُدُول إلا من ظهر فسقه، وهذا بعينه هو مذهب المحدثين كما قرره السيد محمد في “التنقيح” في العواصم والتنقيح”(2).
أقول: لكنَّ نَقْلَه ذلك عن المحدّثين غريب، فقد قال الزركشي في “البحر المحيط”: “واشترط أبو الحسين بن القطان: العدالة، وقال مَن لم يظهر منه ذلك لا يُطلق عليه اسم الصُّحبة، والوليد [هو ابن أبي معيط] الذي شَرِب الخمر ليس بصحابي، وإنما أصحابه [أي النبي] هم الذين كانوا على الطريقة أهـ، قال الزركشي: وهو عجيب لما قررناه من ثبوت عدالتهم المطلقة”.
أقول: بل قولك هو العَجيب!!، ألم يقل الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، قال ابن عبد البر: “لاخلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمتُ أنها نزلت في الوليد”(3)، إذن فكيف بمن وصفه الله بالفسق، وأَمَر المؤمنين بعدم قَبول روايته إلا بالتَّثبُّت تكون عدالته مطلقة؟!!.
واعلَمْ أن مُعظم أن أهل السنة صارت مسألة “الصحابة” عندهم ذات حساسيَّة كبيرة، حتى جعلوها أمرًا مُقدَّسًا، فكلُّ صَحابي عندهم يُنظر إليه كشخص فوق العادي، حتى وإن كان مُجرمًا مُنتهِكًا للحُرمة سفَّاكا للدماء، جاءت في ذمه روايات صحيحة ومتواترة.
يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني عند ذكر الاختلاف في صُحبة مروان بن الحكم ابن أبي العاص في كتابه”هدي الساري”: “يُقال له رُؤية [أي رَأى النبي صلى الله عليه وسلم]، فإن ثبَتت فلا يُعرَّج على من تكلَّم فيه”!.
بالله عليك، تأمَّلْ عِبارته!، يعني إذا ثَبَثت لمروان بن الحكم مجرَّد رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم لا يُتكلَّم فيه لأنه أَصبح صحابيا!!.
مع أن الذهبي قال في ترجمة مروان من “ميزان الاعتدال”: “وله أعمال مُوبقة، نسأل الله السلامة، رَمى طلحَةَ بسَهْمٍ وفعَل وفعَل”.
وقد ثبت لَعْنُ النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه الحَكَم ابن أبي العاص وذُرّيته، صرَّح بها الصحابة، وقال الحافظ: “وردت أحاديث في لَعْنِ الحَكَم وَالدِ مروان وما وَلَدَ، أخرجها الطبراني وغيره غَالبُها فيه مقال وبعضُها جيٍّد”.
وروى النسائي في التفسير من سننه الكبرى عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعَن الحَكَمَ، ومروانُ في صُلبه، فقالت: فمَرْوَانُ فضَضٌ مِن لعنة الله، وسنده صحيح.
وروى أبويعلى في مسنده بسند جيد عن الحسن بن علي ابن أبي طالب سبط رسول الله أنه قال لمروان: واللهِ لقد لعَن الله أباك على لسان نبّيـــه وأنت في صلبه.
وروى أحمد والبزار والحاكم عن الشعبي قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو مستند إلى الكعبة وهو يقول: ورَبِّ هذه الكعبة لقد لَعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َالحكَمَ ومَا وَلَد مِن صلبه، قال الذهبي في تاريخه: هذا صحيح عن الشعبي.
وأفعالُ مروان تدل على ذلك:
فروى الخلال في “السنة” عن قرة بن خالد عن ابن سيرين أن مروان اعترف بقَتل طلحة، وروى ابن أبي شيبة عن قيس ابن أبي حازم قال: رمى مروان بن الحكم يوم الجمل طلحة بسهم في ركبته فمات، وسنده صحيح، وطلحة هو بن عبيد الله أحد المبشرين بالجنة.!!
قال الذهبي في “السِّيَرِ” في ترجمة مروان: قَتــَـل طلحةَ يوم الجمل ونجا، لا نجا. (وهذا دعاء عليه، أي لم يكن يستحق النجاة بل كان يستحق شر قِتْلة).
وروى ابن إسحاق عن ابن عون عن عمير بن إسحاق قال: كان مروانُ يَسُبُّ عليًّا في الجُمَع، فعُزِل بسَعيد بن العاص فكان لايسُبّه.
أقول: وقصة لَعْن مَروان للإمام عليّ على منبر رسول الله، وأَمْرُه لسَهْل بن سعد وغيره من الصحابة أن يسبَّوا أبا تراب ثابتة في صحيح مسلم وغيره.
ولذلك لم يَستسغ المحققون المجتهدون المتحرّرون لما قاله الحافظ ابن حجر في نظريته هذه، فقد قال العلامة صالح المقبلي في كتابه القدير:”العَلَم الشَّامِخ في تَفضيل الحقِّ على الآباء والمشايخ” وهو كتاب يستحقُّ لكل باحث أن يقرأه قال:
“يقول ابن حجر العسقلاني وهو إمام في المتأخِّرين في ترجمة مروان: “إذا ثبتَت صُحبته لم يؤثر الطعن فيه”! كأن الصُّحْبة نُبُــــوَّة، أو أن الصحابي معصوم، وهو تقليد في التَّحقيق بعد أن صارَت عَدالة الصحابة مُسَلَّم بها عند الجمهور، والحقُّ أن المراد بذلك [يعني العدالة] الغلبة فقط، فإن الثنـــاء من الله تعالى ورسوله – وهو الدليل على عدالتهم – لم يتناول الأَفْرَاد بالنصوصية، وإنما غايته عموم، مع أن دَليل شُمول الصحبة لمطلق الرَّائِي ونَحوه رَكيكٌ جدًا، وليتَ شعري مَن المخاطب الموصى؟ وهل هو عَين الموصى به في نحو قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تَسُبُّوا أصحابي فلو أَنفق أحدكم مِثل أُحُد ذهبا لم يَبلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه” فانظُرْ أَسْباب تلك الأحاديث، هو وُقُوع شيء مِن مُتأخِّري الإسلام في حقّ بعض السابقين،…
وعلى الجُملة فمن تتبَّع تلك الموارد وسوَّى بين الصحابة فهو أَعمى أو مُتعام، فمنهم مَن عَلِمنا عَدالتهم ضرورَةً وهو الكثير الطيّب، ولذا قلنا (إنها غالبية فيهم) بحيث يَسوغُ تَرك البحث في أحوالهم، ومن الصحابة نوادر ظَهر منهم ما يُخرجِ عن العدالة فيجب إخراجه مِن العدالة لا مِن الصحبة كالشَّارب، ومنهم مِن أَسلم خَوف السيف كالطُّلقاء وغيرهم، فمَن ظَهر حُسْن حاله فذاك وإلا بَقِي أمره في حيّز المجهول وهُم في حيز الندور، ومع هذا فالعدالة غير العصمة..” إلى آخر كلامه الماتع.
ومثله أيضا قولُهُم بصُحْبَة الحكَم ابن أبي العاص ممن أسلم يوم الفتح، وهو صحَابيٌّ على قاعدة المحدّثين مع أنه صحَّ لَعْنُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إيَّاه، قال الذهبي في تاريخه: لَهُ عموم الصحبة لا خصوصها، ووردت أحاديث منكرة في لعنه لا يجوز الاحتجاج بها!!، وقال في “السير”: له أدْنَى نَصِيْب مِنَ الصُّحْبَةِ، وَيُرْوَى فِي سَبِّهِ أَحَادِيْثُ لَمْ تَصِحَّ.!!
قال الشيخ الألباني: “إني لأَعجَبُ أشدَّ العَجب مِن تَواطُؤ بعضِ الحفَّاظ المترجمين لـ (الحَكَم) على عدم سَوق بعض هذه الأحاديث [يريد حديث: “لَيدخُلنَّ عليكُم رجلٌ لَعِينٌ”] وبيان صحَّتِها في ترجمته، أَهِي رَهْبة الصُّحبة، وكونُه عمَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهم المعروفون بأنهم لا تأخُذُهم في الله لومة لائم؟!أم هي ظروف حكومية أو شعبية كانت تحول بينهم وبين ما كانوا يريدون التَّصْرِيح به مِن الحقِّ(4)؟!!، فهذا مثَلاً ابنُ الأثير يقول في “أسد الغابة”: وقد رُوِي في لعنه ونَفْيه أحاديث كثيرة، لا حاجة إلى ذكرها، إلا أن الأَمر المقطوع به: أن النبي صلى الله عليه وسلم مع حِلْمِه وإغضائه على ما يكره ما فعل به ذلك إلا لأَمْرٍ عظيم”، وأعجب منه صنيع الحافظ في “الإصابة”؛ فإنه- مع إطالته في ترجمته- صدَّرها بقوله: قال ابن السكن: يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه، ولم يثبت ذلك”(5).
أقول: الشيخ الألباني رحمه الله يختلف عن كثيرين بتَحرُّرِه الفكري واستقلاليَّته، ونبذه للتقليد، ومَيله إلى عدم التعويل على كلام العلماء مِن غير قناعة ودليل، وهذا هو الشخص المحقّق، مع أنه عالم سلفيّ أثريّ.
أما استدلال التَّعديل المطلق للصحابة بالآيات القرآنية التي أثنت على المهاجرين والأنصار في سورتي الأنفال والتوبة، وعلى أصحاب بيعة الرضوان، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس، فهذه الآيات لا تفيد عدالة جميع الصحابة لا بتعريف المحدّثين للصحابة ولا بتعريف الأصوليين، لأن بعضها خاص بالمهاجرين والأنصار، وبعضها خاص بمن بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة لا مطلق الصحابة، وكذا في آخِر سورة الفتح: {مُحمَّد رَسُولُ الله والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ ..الآية} مع أن آخر الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} مشروط بالعمل الصالح، وفي أول السورة أن بيعة الرضوان مشروطة بعدم النكث: {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}، أما كلُّ مَن أَسلم مثلاً بعد الحديبيّة فلا يكون مشمولاً لهذه الآيات، وكذلك كلّ من لم يكن حاضراً البيعة فهو كذلك.
أما الاستدلال بقوله الله: {أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، فغير صحيح، فإن هذه الآية تتحدث عن فتح الحديبية عند التحقيق كما في رواية أبي سعيد الخدري وغيره وبه قال كثير من السلف كما نقله الطبري واختاره وهو الصحيح، ولهذا سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: “ألَا إنَّ هذا فَصْلُ ما بيننا وبين الناس”، فسورة الحديد نزلت قبل فتح مكة، ولا تنطبق على مصطلح الصحابة عند تعريف المحدثين، ولأن الله وعَدَ الحُسْنَى كلَّ مَن قاتل وأنفق في سبيل الله مُطلقًا ابتغاء وجه الله وإخلاصا للنية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، سواء أنفق وقاتل مِن قبل الفتح وبَعْدَه.
وسورة التوبة التي نزلت أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالإجماع تُفْهَم مِن ذلك جيدًا لمن تدَبَّرها كثيرًا، ووفَّقَه الله لفَهْمِ كلامه، فقد قيَّدَت التابعين للمهاجرين والأنصار بـ”الإحسان”، ولم تَجعل مُطلق الاتِّباع أمرًا كافياً، وذكر الله في آخرها أنه تاب على المهاجرين والأنصار الذين اتَّبعوه في ساعة العُسرة وعلى ثلاثة من أصحابه ممن تخلَّفوا عن الغزوة من غير عذر.
ونحن نعرف أن الذين ذهبوا مع رسول الله في غزوة تبوك كان عددهم ثلاثين ألفاً في الراجح المشهور، بل في سورة التوبة أنه كان من بينهم منافقون استهزؤوا بالنبي وحاولوا قتله عند القفول من الغزوة {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا}، وكان عدد المهاجرين والأنصار في الجيش ثلاثة آلاف فقط، لماذا لم يقل الله: لقد تاب الله على الذين غزوا معه ممن أسلم بعد الحديبية من أعراب القبائل والوفود والطلقاء وغيرهم؟!.
هوامش:
(1) البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين الزركشي.
(2) كتابه في أصول الفقه المسمى”إجابة السائل شرح بغية الآمل” للصنعاني 1/129.
(3) الاستيعاب بمعرفة الأصحاب 4/1553.
(4) طبعا هذا عامل أساسي في نشأة التراث الإسلامي السنيّ.
(5) سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت رقم 3240.
…………………………………………………….
في الحلقة التالية: منهج عدالة الصحابي عند الصحابة.