المحور الأول
أسباب عدم تدوين الحديث النبوي مثل القرآن في العهد النبوي والصحابة:
مما يقرُّه أيُّ مسلم بَداهةً أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى اهتماما كبيرًا بتدوين القرآن الكريم وتحفيظه وإقرائه على الصحابة، لكونه أساس الرسالة الإسلامية المحمديَّة الخالدة، ولأن من المعروف أن القرآن نزل مفرّقا على مدار ثلاث وعشرين سنة، فبعض الأحيان كان جبريل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ له الآيات المنزّلة فيستعجل الرسول في القراءة والتكرار قبل أن يقضي جبريل المهمَّة، ويحرّك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه ويضيع منه، فأنزل الله عليه هذه الآيات: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16-19]، وقوله: {إنَّ علينا جَمْعه} قيل فيه معنيان: أي جمعه في صدرك {وقُرآنَهُ}أي: إثبات قراءته فى لسانك فلا يضيعه منك، وقيل إن معنى الجَمْع الحفظ والتأليف، رواه الطبري عن قتادة.
وهذا ردٌّ على من قال إن القرآن كاد أن يضيع في وقعة حروب الردّة في اليمامة إثر استشهاد سبعين من حفَظَة القرآن.
ولذلك لا يصح كل ما ورد من الآثار عن هذه الواقعة خاصة ما رواه ابن أبي داود في كتابه “المصاحف” عن الزهري قال: بلغنا أنه كان قرآن كثير، فقُتل علماؤه يوم اليمامة، الذين كانوا قد وَعَوه، ولم يعلَّمْ بَعدهم ولم يُكتَب، فلمَّا جمع أبو بكر وعمر وعثمان القرآن ولم يوجد مع أحد بعدهم، وذلك فيما بلغنا حمَلهم على أن يتتبَّعوا القرآن، فجمعوه في الصُّحُف في خلافة أبي بكر(1).
وروى عبد الرزاق في “المصنف” عن سفيان الثوري قال: بلغنا أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقرؤون القرآن أصيبوا يوم مسيلمة، فذهبت حروف من القرآن.!
كل هذا باطل، لأن الله قال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عندما تنزل الآيات يَستدعي كتَبة الوحي، فتُوضَع الآيات فيما تُناسبها مِن السُّور بانتظامٍ دقيق، ويقوم الصحابة بتدوين تلك الآيات في صُحُفهم الخاصة، ومَن لا يجيد الكتابة يحفظها عن ظهر القلب، بل كان علماء الصحابة يحفظون القرآن عن ظهر القلب كما هو نصّ القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت/49)..
وأمر الله نبيه أن يقرأ القرآن على الناس على تؤدةٍ وبُطء كي تكون ألفاظه ومعانيه أثبت في نفوس السامعين فقال تعالى:{وَقُرْءَانًا فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍۢ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106]، وقوله {فرقناه} أي: أنزلناه منجماً مفرّقاً غير مجتمع دفعة واحدة، وهذا التفسير أقوى من تفسير {فرقناه} بالتفصيل والتبيين والفرقان.
وقد جمع القرآنَ كاملا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عدّة من الصحابة في مصاحفهم الخاصة، حصَر أنسٌ بن مالك أفرادًا من الأنصار منهم: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد عمّ أنس، وأبيّ بن كعب، وتُعُقّب أنس في ذلك بأن عددا كبيرا من المهاجرين وغيرهم جمعوا القرآن منهم الإمام عليّ ابن أبي طالب وابن مسعود ومجمع بن جارية وآخرون.
وعلى أيه حال، فخَشْيَة عمر بن الخطاب مِن مصير القرآن يوم اليمامة واقتراحه على الخلفية أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن إنما هو مخافة أن لا يُوجد مصحف مُرتّب ذو مرجعية ومصداقية تجتمع عليه الأمة الإسلامية، وذلك بسبب استشهاد بعض مَن يمكن أن يقوم بتلك المهمة مِن مهرة القرآن.
ولكن محور موضوعنا: أنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أَولى اهتمامه بتَدوين القرآن لفظًا ونصًّا كما أُنزل؛ فلماذا لم يهتمّ بتدوين أقواله؟!، أو أفعاله، لأن أفعاله هي السنة العملية التي سيتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل.
بل رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم المنع مِن كتَابه أَقْواله أو تَدوينها بطُرق قوية، فروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن، ومن كتب شيئاً سوى القرآن فليمحه”.
وروى أبوداود في سننه عن زيد بن ثابت قال: أمَرنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نكتب شيئاً من حديثه.
وروى أحمد في مسنده عن أبي هريرة، قال: كنّا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي فخرج علينا، فقال: “ما هذا تكتبون؟” فقلنا: ما نسمع منك، فقال: “أكتَابٌ مع كتاب اللّه؟” فقلنا ما نسمع، فقال: “اكتبوا كتابَ اللّه، امحضوا كتابَ اللّه أو خلصوه”، قال: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ثمّ أحرقناه بالنار، قلنا: أيْ رسولَ اللّه، أنتحدَّث عنك؟ قال: “نعم، تحدّثوا عنّي ولا حرج، ومَن كذب عليَّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار”.
وهذه الرواية وإن صححها الأرناؤوط في تحقيق المسند وغيره، ولكن يشكّل عليها ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: ما أعلم أحداً أكثر حديثاً مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كان يكتب ولا أكتب.
فأبوهريرة كان أميًّا، ولكن قد يُجمَع بين الروايتين بأن أباهريرة لم يكن ممن يكتب في تلك الجلسة وإنما كان حاضرًا في الواقعة، وهذا ردّ على من يقول بأن المنع كان في بداية الإسلام، ولأن كتابة عبد الله بن عمرو وتدويناته كانت فردية غير منتظمة.
ولكن مع وجود هذا التوجُّس سمح النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض أقواله في نطاقات محدودة، وإن كان معظمهما أحكام هامة تتعلّق بأمور الدين وأصول الشريعة، فقد أمر لأبي شاه اليمني أن يكتب لبعض الأحكام في الشريعة في فتح مكة، وأيضا كتب لعامله في اليمن عمرو بن حزم كتابا يشمل على أصول الإسلام وطريق الدعوة إليه والعبادات وأنصبة الزكاة والجزية والديات(2).
وكان لبعض الصحابة صحائف في تدوين بعض السنة، كصحيفة الإمام عليّ ابن أبي طالب وبعضها في الصحيحين، وصحيفة جابر بن عبد الله، وأورد مسلم بعضها في مناسك الحج، وصحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو كان أحرص الصحابة لتدوين الحديث النبوي، لأنه كان ماهرا بالكتابة ويعرف السريانية، وصحيفة عمرو بن شعيب بن محمد عن آبائه جزء منها.
أما الحديث المروي في سنن أبي داود عن عبد اللّه بن عمرو، قال: كنتُ أكتبُ كلّ شيء أسمعه من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أُريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كلّ شيء تسمعه ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟!، فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه، وقال: “اكتُبْ فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حقّ”.
أقول: فهذا لا يصحّ عندي، لأن عبد الله بن عمرو أسلم قبل أبيه في العام السابع الهجري بعد خيبر، فلا وجود لقريش في المدينة المنورة تمنع عبد الله ابن عمرو من تدوين كلَّ شيء يتفوّه به الرسول، ولأن أحاديث مَنْع التدوين العام أَقوى وأكثر عددًا، ولأن رواية أبي هريرة الآنفة الذكر في مَنْع التدوين تدلُّ على أن مَنع التدوين وصَل في العام السابع وما بعده، ولأن الرسول لا يسمح لشخص أن يدوّن كل ما يصدر عنه في الحضر والسفر وذلك للفرق العلمي المعروف بين اصطلاح “الرسول” و”النبي”، وفيه مبحث مهمّ يمكن للباحث أن يتتبّعها.
يقول د.صلاح الدين الإدلبي: “مع أن الحديث النبوي كان بُدِئ بتدوينه منذ عهد الرسول ومع أن عدد من الصحابة والتابعين قد دوّنوا صحفا من مسموعاتهم إلا أن التدوين إذ ذاك كان جُزئيا وفَرديا، يعني أنهم لم يُدوّنوا كل ما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن التدوين لم يكن سِوى عمل قام به أفراد لأنفسهم وليس عمَلا تُشرِف عليه الدولة وجماعة المسلمين، فيأخذ الحديث شكلًا واحدا، ولو أنهم فعلوا ذلك لكانت خطوة حاسمة لقطع الطريق على الوضاعين”.(3)
أقول: لكن مما يمكن الإجابة عن هذه الخطوة الحاسمة للحيلولة دون وضْعِ الحديث الذي ذكره الإدلبي أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما كانت شيئا محدودا مثل القرآن، فمن الصعب جدًّا إن لم يكن مستحيلا – لو قرَّر الصحابة تدوين الحديث مثل القرآن – استقصاء أو حصر ما تلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم منذ عَقْد أو أكثر، وفي مناسبات متعددة.
وعلى أية حال فالسؤال الذي يتساءل به الباحث أو الشخص العادي: لماذا لم يهتمّ النبي صلى الله عليه وسلم بتدوين الحديث، بل مَنَع بدلا من ذلك من الاشتغال بالتدوين؟!.
يطرح البعض للإجابة عن هذا السؤال سببين:
الأول: أن المنع كان في أوّل الإسلام لخشية اختلاطه مع القرآن، ولكن حين استقرت الدعوة الإسلامية ونزل معظم القرآن سمح وأَذِن في كتابة الحديث، ولكن يُعترض على هذا الافتراض بما سبق في تأخّر المنع العام في العام السابع ومما بعده، وبأن هذا الاهتمام بالتدوين بالحديث لم يكن في زمن الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل لم يكن بالجيل الأول من التابعين، وإنما بدأ في منتصف القرن الثاني الهجري في عهد عمر بن عبد العزيز الأمويّ.
فهل تنازَل الصحابة عن هذا الموضوع المهمّ، أم ماذا؟!، وإذا كان تمّ جَمْع القرآن وتهذيبه وترتيبه جرى في عهد الخلفاء الراشدين بإجماع مِن الصحابة، فلماذا لم يجد الحديث هذا الاهتمام أيضًا، ولو حتى بدرجات أقلّ؟!.
الثاني: أن أدوات الكتابة ووجود الكتَّاب لم تكن متوفرة، وأن الكادر كان قليلا.
أما الشيخ جعفر السبحاني من كبار علماء الشيعة الإمامية ومحقّقيهم فيرى أن النبي اهتم بكتابة الحديث بل أولى عناية فائقة بكتابته عن طريق كُتَّابه، وتبعه لفيف من أصحابه فألّفوا صحائف ورسائل، وقام لفيف من الصحابة بتدوين الحديث، إلا أن عنده نظرية تعتقدها الشيعة الإمامية وهي أن الخلفاء من بعده خاصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَضَوا على تلك الأحاديث وأتلفوها، ثم منعوا من الرواية لأسبابٍ سياسية، وستأتي الإجابة عن ذلك في المحور الثالث.
ثم يردف السبحاني: “أمّا عدم مساعدة الكتاب فلأن الله سبحانه اهتم بكتابة الدَّين اهتماماً بالغاً: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الّذِي عَلَيْهِ الْحَقّ}، ثمّ عاد وأكّد على الموَمنين أن لا يسأموا من الكتابة، فقال سبحانه: {وَلا تسأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبيراً إِلى أَجَلِهِ}، فإذا كان الدَّيْن بهذه المنزلة من الأهمية، فكيف بأقوال النبي وأفعاله وتقاريره التي تُعتبر تالي القرآن الكريم حُجيَّة وبرهاناً؟”.(4)
أقول: هناك فرق بين موقف الإسلام من الكتابة والتدوين في العلوم المختلفة والمواثيق والعقود وكل شيء وبين ما نتناوله في مبحثنا، فالله منَّ على الإنسان أنه علّم بالقلم، وأقسم على القلم وما يسطرون، ولم هناك بعد انتهاء الرسالة ما يمنع من تدوين الحديث أصْلا بل دوُّنت بعضها فعلا في حياة الرسول، إلا أن كتابة الدَّين في الآية معللَّة بأنها أقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا، غير أنها لم تلزم به في كل وقت: {إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا}، {وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ۖ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}.
ولكن مبحثنا هو: إذا كان النبي أَوْلى باهتمامٍ فائقٍ جدًّا – كما يقوله الشيخ السُّبحاني – بكتابة الحديث مثل القرآن، فلماذا لم يَنزِل ذلك على واقع الأرض، ولماذا استمرَّ مَنْع تدوين الحديث في عهد أبي بكر وبشكل جَليّ في عهد عمر رضي الله عنهما؟!!.
ولماذا قام معظم الصحابة بتقليل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمروا أتباعهم بالتركيز على القرآن كما سيأتي مفصّلا في المحور القادم؟!!.
سأحاول الإجابة عن هذه الأسئلة:
أولا: أن مَنْع النبي صلى الله عليه وسلم من تدوين أحاديثه جاء تخفيفًا على الأمة ورحمة بهم، وتنفيذا لأمر الله له أن يقرأ عليهم القرآن الذي ينزل بين فينة وأخرى، بين ليلة وليلة، وأسبوعا أسبوعا، وشهرا شهرا طَريًّا متتاليا أن يقرأه على مُكْثٍ وتؤُدة ومهلة بإتقانٍ وإحكامٍ: {وَقُرْءَانًا فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍۢ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106]، فمن غير المعقول إشغال هذا الجيل الذي يراد منه حمل هذا الكتاب العزيز إلى الأجيال القادمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بغيره، ما دام أن القرآن ينزل تباعا حتى وفاة الرسول، فلا وجْهَ للقول بأن المنع كان في أوَّل الأمر ثم أمر بإباحته.
ثانيا: أن مرتكزات سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي فيما يفعله من العبادات والمعاملات والمناسك ومعاملة الناس وأقضيته وإقامته للحدود وغيرها، وبعض الأوراد المحفوظة التي تقال في العبادات والمناسبات، وهذا أمْرٌ يُنقل بالمشاهدة، يشاهده عشرات الآلاف من الصحابة في فترات وسنوات طويلة، وينقلونها جيلا بعد جيل بالتطبيق العملي، ولهذا أمر الله المسلمين الاقتداء بما يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الأحزاب/21).
ثالثا: أن الله أعلم نبيّه صلى الله عليه وسلم بأنه سيُفترى ويكذب عليه كما حدث في حياته (سيأتي ذلك في المحور الثالث)، حيث ستُنسَب إليه مئات الآلاف من الأحاديث التي لم يقل بها، وقد وقع ذلك بالفعل، فتوَعَّد أن مَن يكذب عليه سيلج النار، ولذلك فإن أكثرَ حديثٍ رُوِي عن النبي صلى الله وسلم عددًا هو قوله: “مَن كذب عليَّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار”، رواه قرابة مائتي صحابي، بل هو الحديث المتواتر الوحيد لفظا ونصًّا، وهذا دليل على أن النبي كان يكرر ذلك في أكثر من مناسبة.
ولكن بدلا من ذلك رغّب أصحابه أن يبلّغوا أقواله وأفعاله لمن بعدهم من المسلمين كلٌّ على حسب قُدرته، وأن يتوخّوا الحذر في ذلك، فقال: “نضَّر الله امرءًا سمِع مقالَتي فوعاها وحفِظها وبلَّغها كما سمعها، فرُبَّ مبلِّغ أو سامع، ورب حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه”، وهذا حديث مستفيض أيضا من الأحاديث القريبة من التواتر اللفظي، وقال لهم في حجة الوداع: “خُذوا عنّي مناسككم”، وقال: “صَلُّوا كما رأيتموني أصلّي”.
كل تلك العوامل أدت إلى عدم تدوين الحديث النبوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة وفي عهد كبار التابعين.
وقد ذهب الكاتب الإسلامي المعروف مصطفى السباعي إلى قريب من هذا الاستنتاج فقال: “أما السُّنة فلم تتلقَّ عِناية الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في تدوينها، رغم أنها مصدر مهمٌّ من مصادر التشريع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يختلف أحد في أنها لم تُدوَّن تدوينا رسميا كما دُوّن القرآن، ولعلَّ مَرجع ذلك إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم عاش بين الصحابة ثلاثًا وعشرين سنة، فكان تدوين كلماته وأعماله ومعاملاته تدوينًا محفوظًا في الصُّحُف والرقاع من العُسر بمكان، لما يحتاج ذلك إلى تفرّغ أناس كثيرين من الصحابة لهذا العمل الشاق”(5).
أما الكاتب الفقيه المفكر طه جابر العلواني فيرى أن التدوين الذي حصل لم يَحسم الجدل القائم بشأن تنقية السنة النبوية من الشّوائب، ولم تجتمع عليه الأمة الإسلامية مثل القرآن، فيقول: “مما لا شكَّ فيه أن عملية جَمْع السنة كانت ثمرة جُهود هائلة لكنها تَبقَى في النهاية عملية بشريّة احتمالية ظنيّة، ولا يستطيع أحدٌ أن يجزم بأن هذه الطريقة قد أَحاطَت بكل نصٍّ نبويّ صحيح، ولا أنها مَنعت كلَّ خبَرٍ ضعيف، ومِن هنا فكيف يُمكن في الدِّين الالتزام بما هذا شأنه؟! أي: بما كان من المحتمل أن يكون ضعيفا مَدخولا ومدسوسًا، ومما يؤكد ذلك أن العمليَّة التدوينية لم تَكتمل فصولها قبل القرن الهجري الثالث، كأنها لم تبدأ جِدّيا إلا قبل منتصف القرن الثاني الهجري”.(6)
الهوامش:
(1) المصاحف لابن أبي داود 1/208.
(2) “منهج نقد المتن عند علماء الحديث”، للدكتور صلاح الدين الأدلبي ص: 76.
(3) “منهج نقد المتن عند علماء الحديث” مرجع سابق ص:47.
(4) الحديث النبوي بين الرواية والدراية، للشخ جعفر السبحاني ص:15.
(5) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، للسباعي ص:58
(6) إشكالية التعامل مع السنة” ص:276.
…………………….
في الحلقة التالية: تقليل معظم الصحابة لرواية الحديث ومنع بعضهم إياها وأسباب ذلك؟!