المحور الثالث
تقليل معظم الصحابة لرواية الحديث ومنع بعضهم إياها وأسباب ذلك:
زهد معظم الصحابة وكبارهم في رواية الحديث، بل صرَّحوا بضرورة تقليل الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن بعض صغار الصحابة ومتأخريهم كأبي هريرة توسّعوا في الرواية، وتعرّض أبو هريرة للانتقاد في ذلك كما سيأتي، ومن أشهر من أكثر من الرواية عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك وعائشة وأبو سعيد الخدري.
فروى ابن ماجه في مقدمة سننه عن أبي قتادة الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: “إياكم وكثرة الحديث عني، فمن قال عليَّ، فليقُل حقًّا أو صِدقًا، ومن تقوَّلَ عليَّ ما لم أقل، فليتبوَّأ مقعده من النار”.
وروى ابن ماجه أيضا عن عبد الله بن الزبير قال: قلتُ: للزبير بن العوام: ما لي لا أسمعك تحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسمع ابنَ مسعود، وفلانا وفلانا؟ قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلَمتُ، ولكني سمعتُ منه كلمة، يقول: “مَن كذب عليّ متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار”.
وروى البخاري في صحيحه عن السائب بن يزيد، قال: صحبتُ طلحة بن عبيد الله، وسعدًا، والمقداد بن الأسود، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فما سمعت أحدا منهم يحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد.
وفي رواية لابن ماجه والرامهرمزي في “المحدث الفاصل” -واللفظ له – عن السائب بن يزيد، قال: صحِبتُ سعدَ بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة، وفي رواية: صحِبتُ سعدًا سَنةً، فما سمعتُه يحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا.
وروى الطبراني والرامهرمزي عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كان عبد الله بن مسعود يمكث السنة لا يقول: قال رسول الله، فإذا قال: قال رسول الله، أخذته الرّعدة ويقول: أو هكذا أو نحوه.
وروياه – أعني الطبراني والرامهرمزي – أيضا عن عمرو بن ميمون – وهو تابعي آخر – قريبا من هذا المعنى، قال: اختلفتُ إلى عبد الله بن مسعود سنة، فما سمعته يقول: قال رسول الله إلخ.
وروى أحمد في مسنده عن ابن أبي ليلى قال: كنا إذا جئنا زيدًا بن أرقم قلنا له: حدِّثْنـــا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: إنا قد كَبِرنا ونسِينا، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شَديدٌ.!
وروى مسلم في مقدمة صحيحه عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدِّثُ ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابنُ عباس لا يَأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابنَ عباس! ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟! أُحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟!، فقال ابن عباس : إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلمَّا رَكب الناسُ الصَّعب والذلول، لم نأخذ مِن الناس إلا ما نعرف.
وهؤلاء الصحابة كانوا من السابقين إلى الإسلام الذين لم يفارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرًا وحضرا منذ عهد قريب من بعثته وحتى وفاته: سعد ابن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وهم من العشرة المبشرين، وأبو قتادة الأنصاري، فأين أحاديثهم؟!!، بل ما رُوي عنهم إلا النزر اليسير.
إضافة إلى هذا التقليل، فقد كان كبار الصحابة يرغّبون أتباعهم بتقليل الرواية، والإقبال على القرآن.
فروى ابن ماجه والحاكم وصححه عن الشعبي عن قرظه بن كعب قال: بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة وشيَّعنا، فمشى معنا إلى موضع يقال له صرار، فقال: أتدرون لـمَ مشيتُ معكم؟! قلنا لحقِّ صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحقّ الأنصار، قال: لكني مشيتُ معكم لحديثٍ أردتُّ أن أحدّثكم به فأردتُّ أن تحفظوه لممشاي معكم، إنكم تُقدِمون على قَوم للقرآن في صُدورهم هزيز كهزيز المرجل فإذا رأوكم مَدُّوا إليكم أعناقهم وقالوا: أصحابُ محمد، فأقِلُّوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنا شريككم.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن جابر الجعفي عن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليــًّــا رضي الله عنه يخطب ويقول: أعزِمُ على كلّ مَن كان عنده كتابٌ إلا رجَع فمحاه، فإنما هَلك الناسُ حيث تتبَّعوا أحاديثَ عُلمائهم، وتركوا كتابَ ربهم.
والجعفي هذا ضعفه جمهور أهل الحديث لتشيُّعه، ولكن وثَّقه وكيع، وشعبة، وسفيان الثوري، وهم ألصق به لكونهم عراقيين، وأقرب عهدًا به، ووثقه أيضا زهير بن معاوية، قال سفيان الثوري: كان جابر ورِعًا في الحديث، ما رأيت أورع في الحديث منه، وقال شعبة بن الحجاج: كان جابر صدوقا، وإذا قال: حدثنا، وسمعت، فهو من أوثق الناس، وقال وكيع: ثقة، فلا تشكّوا فيه.
قال ابن عدي: عامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة، أي: كان يغالي في عليّ.
أقول: لكن روى البخاري لعِمْران بن حطان من رؤوس الخوارج، وكان يمدح ابنَ ملجم قاتِل الإمام عليّ، وروى لحريز بن عثمان الذي كان يلعن الإمام عليٍّ صراحةً، فأي بدعة أغلظ من ذلك، لماذا لم تردّ أحاديثهم؟!!، وكيف يضعَّف شيخٌ فاضل وثقه معاصروه الكبار كالثوري وشعبة ووكيع لمذهبه في التشيُّع فقط؟!.
وروى الدارمي والترمذي في سننيهما عن الحارث بن عبد الله الأعور قال: دخلتُ المسجد فإذا أُناس يخوضون في أَحَادِيث، فدخلتُ على عليٍّ ابن أبي طالب فقلتُ: ألا ترى أناسا يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال: قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أمَا إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ستكون فتن” قلتُ: وما المخرج منها؟ قال: “كتابُ الله، فيه نبأُ مَن قَبلكم، وخبَر مَن بعدكم، وحُكم ما بينكم، هو الفَصل ليس بالهزل، مَن تَركَه مِن جبّار قصمه الله، ومَن ابتغى الهُدَى في غيره أضلّه الله، هو حَبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تنقضي عجائبه”.
والحارث بن عبد الله الهمداني الأعور كان من خواص الإمام عليّ المعروفين ومن فقهاء الكوفة المرموقين، ومن شيعة عليّ الأولين، كان فقيها أثنى عليه بعض التابعين، قال ابن سيرين: أدركتُ أهل الكوفة وهم يقدّمون خمسة: الحارث الأعور، وعبيدة السلماني، وعلقمة ومسروق وشريح.
وقد وثقه ابن معين، وقال النسائي: لا بأس به، وضعفه كثير من أهل الحديث لتشَيُّعه، وهذا مما لا نقبل به أيضا للسبب السابق في الجعفيّ.
ولكن حديث الحارث الأعور هذا أشبه بالموقوف، ولا يصحّ مرفوعا، لأن الكلام يُشبه خُطب عليّ في “نهج البلاغة”، وهو يعبّر عن موقف أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام مِن خطورة الإقبال والاهتمام الشديد على الأحاديث والآثار مع إهمال القرآن.
وروى الدارمي وابن أبي شيبة وابن عبد البر في “جامع العلم” عن الأسود بن حلال قال: أُتى عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث، فدعا بماء فمحاها، ثم أمر بها فأُخرجَت، ثم قال: أُذكِّر بالله رجلا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدار الهند لبلغتها، بهذا هلَكَ أهلُ الكتاب قَبْلَكُم حِين نَبذُوا كتابَ الله وراءَ ظُهُورهم كأنهم لا يعلمون.
منع تدوين الحديث والرواية عن النبي في خلافة عُمر:
روى عبد الرزاق والبيهقي عن عروة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السُّنن، فاستفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – وفي رواية: فاستشارهم في ذلك-، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرتُ قوما كانوا قبلكم كتَبُوا كُتُبا، فأكبُّوا عليها، وتركوا كتابَ الله، وإني لا أشُوبُ كتابَ الله بشَيء أبدًا.
وروى الحاكم والرامهرمزي في المحدث الفاصل من طريق سعد بن إبراهيم عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود وأبي الدرداء وأبي ذر: قد أكثرتُم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فحَبسَهُم حتى أُصيب، أيْ اغتيل.
أقول: وهذا يشكّل عليه ما كان من سلوك هؤلاء الصحابة الفضلاء من تقليلهم الرواية من عند أنفسهم من غير فَرْضٍ عليهم كما نقلنا عنهم، إلا أن يُحمل على أنَّ عمر كان يمنع من مُطلق الرواية أو حتى التوسُّط فيها.
وأخرج أبو زرعة الدمشقي في “تاريخه” بسند صحيح عن السائب بن يزيد أنه سمع عمر يقول لأبي هريرة :لتتركنَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنَّك بأرضِ دَوسٍ!، وقال لكعب الأحبار: لتتركنَّ الحديث، وفي رواية: الحديث عن الأُوَلِ، أو لألحقنك بأَرضِ القِردة!.
قال الذهبي في “السِّير” بعد نَقْلِه:” هكذا هو كان عمر رضي الله عنه يقول: أقلُّوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزجَر غير واحد من الصحابة عن بثّ الحديث، وهذا مذهب لعمر ولغيره، فبالله عليك، إذا كان الإكثار من الحديث في دولة عمر كانوا يمنعون منه مع صدقهم وعدالتهم وعدم الأسانيد، فما ظنُّك بالإكثار من رواية الغرائب والمناكير في زماننا مع طول الأسانيد، وكثرة الوَهم والغلط، فبالحريّ أن نزجر القوم عنه…إلى آخر كلامه، وقد سُقته في كتابي: (الإمام الحافظ الذهبي وفكره النقدي).
وقد توقّف أبوهريرة عن رواية الحديث منذ ذلك الوقت إلى أواسط خلافة عثمان، فروى ابن عساكر في “تاريخ دمشق” عن محمد بن عجلان أن أبا هريرة كان يقول: إني لأُحدّثُ أحاديث لو تكلَّمتُ بها في زمان عُمر لشُجَّ رأْسي.!!
وروى أيضا عن أبي سلمة قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قُبض عمر، قال: فسألته بم؟! قال: كنا نخاف السياط.
وقد أنكر ابن عمر وعائشة على أبي هريرة كثرة الرواية، فروى الحاكم والرامهرمزي عن عائشة أنها دعت أبا هريرة، فقالت له: يا أبا هريرة، ما هذه الأحاديث التي تَبلُغنا أنك تحدّث بها عن النبي، وفي رواية الرامهرمزي: ما أكثر ما تحدِثُّ عن رسول الله؟!، إنك لتحدِّثُ بأشياء ما سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبوهريرة: كان يشغلك عنها المرآة والمكحلة.
وروى البخاري عن نافع قال: حُدِّث ابنَ عمر أن أبا هريرة رضي الله عنهم يقول: “مَن تَبِع جنازة فله قيراط”، فقال ابن عمر: أكثرَ أبو هريرة علينا!، فأرسل إلى عائشة يسأله عن قول أبي هريرة فصَدَّقته.، وهذا ليس معناه اتّهام أبي هريرة بالكذب على النبي بل بكثرة الرواية، وقد اعترف أبوهريرة بتوجيه هذا النقد له، ففي الصحيحين عن الأعرج، قال: قال أبو هريرة: إنكم تقولون: أكثر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله الموعد.
أقول: وسيأتي التفصيل في النقاش بين عائشة وأبي هريرة في عدة أحاديث في المحاور الرابع وما بعده.
أسباب تقليل الصحابة من الرواية الحديثية ومنع بعضهم روايتها:
يقول الشيخ الداعية الغزالي في كتابه “فقه السيرة”: “مَن منَع مِن تدوين الحديث كعُمَر وغيره من الأئمة لا يعني أنهم يجحدون السُّنة، ولكنهم يريدون إعطاء القرآن حظَّه الأوفر مِن الحفاوة والإقبال، وذلك هو الترتيب الطبيعي، فلا بدّ من معرفة القانون كله معرفة سليمة قبل الخوض في شُروح وتفاصيل لبعض أجزائه”.
ويقول الشيخ الفقيه المفكر طه جابر العلواني: “هذه الروايات مِن هؤلاء الصحابة تدلُّ على وَعْيِهم بضرورة الالتزام بالتكوين القُرآني للشَّخصية المسلمة، ووَضْعِ هَدْي رسول الله مَوضعه مِن القرآن ليتَّضح منهجه في اتّباع القرآن، وتلاوته حق تلاوته، وتعليمه للناس وتزكيتهم به، والحذر الشديد الذي اتفقت عليه كل هذه الآثار عن أَقرب أصحابه وآل بيته إليه صلى الله عليه وسلم القَدْر المشترك بينها، هو الخوف والحذَر مِن فتح أيَّة سبيل على الناس يُشغِلهم بغير كتاب الله، أو يأخذ مِن اهتمامهم مِثل أو أكثر مما يأخذ كتابُ الله من ذلك الاهتمام”(1).
أقول: وهناك أسباب رئيسية في تقليل الصحابة للرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم نجملها ما يلي:
السبب الأول:- تحقّق النبوءة في انتشار ظاهرة الكذب على الرسول، وأن الصحابة تلقَّوا مِن النبي صلى الله عليه وسلم إشارات جليّة وواضحة بأن ظاهر وضْعِ الحديث والكذب على رسول الله ستشري في الآفاق لا محالة، فلم يُريدوا أن يفتحوا هذا الباب.
ولذلك ذكرنا اعتذار كبار الصحابة من السابقين الأولين إلى الإسلام كالزبير بن العوام وأمثاله أنَّ ما يمنعهم من الرواية هو مما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ معقده من النار”.
قال الباحث أحمد أمين: “يظهر أن الوَضع في الحديث بدأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الحديث “مَن كذَب عليّ…” إنما قيل لحادثة زُوِّر فيها عليه.
وقد انتقده مصطفى السباعي بأن ما استظهره أمين لا سند له في التاريخ، ولم يقع أن أحدًا من الناس زوَّر عليه، لأنه لو وقع ذلك لانتشر.
أقول: ولكن روى الطحاوي في “مشكل الآثار” وابن عدي في الكامل عن بريدة قال: جاء رجل إلى قوم في جانب المدينة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَني أن أحكم برأيي فيكم في كذا وكذا، وقد كان خَطَب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوّجوه فذهب حتى نزل على المرأة، فبعث القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “كذب عدوّ الله”، ثم أرسل رجلا فقال: “إن أنت وجدتَّه حيًّا فاضربْ عُنُقه وما أراك تجده حيًّا، وإن وجدتَّه ميتا فحرّقه”، فانطلق الرجل فوجده قد لُدغ فمات فحرقه فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”.
أقول: وهذا الحديث لا يصح بالمرة، ففي سنده صالح بن حيان قال ابن حبان: “يروي عن الثقات أشياء لا تشبه حديث الأثبات، لا يعجبني الاحتجاج به إذا لم يوافق الثقات”، ومتنه منكر جدًّا كما لا يخفى.
ولكن القرآن الكريم نصّ على أنه تمَّ الكذب وتلفيق الأخبار في عهد رسول الله في أواخر عهده، فكان المنافقون يكذبون ويحلفون على الكذب وهم يعلمون، بل وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أُذُن، قال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [سورة التوبة/61]، روى ابن جرير الطبري عن مجاهد:{وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} يقولون: نقول ما شئنا، ثم نَحلِفُ له فيصدِّقُنا، وقال ابن عاشور: {هُوَ أُذُنٌ} هو كناية عن تصديقه بكلّ ما يسمع من دون تمييز بين المقبول والمردود.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على علمٍ بعدد المنافقين إلا ما أوحى الله إليه، قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}، وقد ذكر الله في السورة نفسها – التوبة – أن من المؤمنين الصحابة سمَّاعون للمنافقين، قال ابن عاشور: يصدقون ما يسمعونه من المنافقين.
وقد تناول القرآن أيضا حادثة الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، فلما أن سار الوليد حتى بلغ نصف الطريق خاف لأنه كان بينهم عداوة قديمة فترجّح لديه أنهم سيقتلونه، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الحارث زعيم القبيلة قد منعني من الزكاة وأراد قَتْلي، فغضب الرسول وبعث خالدًا بن الوليد إلى بني المصطلق، وأمره أن يتثبَّت، فلما وصل خالد إلى ديارهم عَلِم أنهم مسلمون، لم يمنعوا الزكاة، ولم يأت الوليد إليهم، وانكشف الكذب، فأنزل الله سبحانه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات/6].
والوليد بن عقبة صحابي بالإجماع، وممن أسلم يوم الفتح، ولا خِلاف في أنَّ هذه الآية نزلت فيه، قال الذهبي في “السِّير”: له صحبة قليلة، ورواية يسيرة.
قال صلاح الدين الإدلبي: “ففي هذه الآية التحذير من الكذب، إذ سمّى الكذَّابَ فاسقًا، وأمر الله بالتثبُّتَ في خبر الفاسق، لأنه بِفِسقه أصبح مشكوكا فيه وفي أخباره”.
أقول: وقد أوردت في كتابي (جوهرة البيان في استنباط القرآن) بأن معظم المفسرين المستنبطين قَلَبوا دلالة هذه الآية فاستنبطوا منها قبول خبر الواحد بمفهوم المخالفة، وتجاهلوا منطوقها لأن فيه ردٌّ على النظرية القائلة بأن جميع الصحابة – إذا اتَّبعنا التعريف الشائع عند أهل الحديث: كلُّ مَن لَقِي النَّبيَّ مُؤمنًا وماتَ على الإسلام –أن كلَّهم عُدُول، والعدالة تشمل شيئين: الصِّدق في النقل، والضَّبط وعدم الوَهْم فيها، أما الأولى فمعظم الصحابة عُدول إلا مَن ثبت فِسقُه ونفاقه، وأما الثانية فوقع فيه بعض الصحابة وسيأتي له مبحث في الحلقة الرابعة.
أما الاستنباط من هذه الآية فأوردتُّ في “الجوهرة” عن بعضهم اعتذارات واهية عن سبب النزول الحقيقية وشأن قبول رواية الوليد والتّثبت، وهو الذي عمل به الصحابة كما سيأتي، وهذامن أقوى الأدلة على أن القرآن مهجور، نعم مهجور!، وأن المذهب والموروث الثقافي المترسخّ أقوى وأكبر وأَرفع درجة منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.!!
ثم إن الوضع في الحديث استشرى في زمن الفتنة الكبرى إثر مقتل عثمان وما بعدها، وبعد أن انقسم المسلمون إلى دويلات وطوائف، وربما بدأ قبل ذلك في الفتنة التي كانت في زمن عثمان، أفاده الدكتور الأدلبي.
السبب الثاني:- التوجُّس من انشغال المسلمين وصرف جهودهم إلى أحاديث وآثار قد لا يصحُّ مُعظمها في العقائد والغيبيات وغيرها، فيختلفون في دلالاتها ويتنازعون، فيذهب رُوح القرآن وجَوهره، وتشكيله لعقلية المسلم، وكَونه العاصم مِن الفتن، وتسُود الخُصومة والمذهبية والتعصُّب، وهذا ما حَدَث بالفعل!.
يقول الباحث مجدي الهلالي:”إن أهمّ الحِكَم مِن مَنْع تدوين الحديث هو خوف الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته مِن بعده على انشغال المسلمين بغير القرآن كمصدر متفرّد للتغيير والتقويم، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان أعلم الناس بقَدْرِ القرآن، وبأنه لا يقُومُ مقامه شيء آخر في عمله داخل الإنسان، وكان يخشَى مِن الانشغال بغيره حتى لا يَفقِد القلبُ أهمَّ مصدرٍ لإنشاء الإيمان وإحداث التغيير، وقد كان الصحابة يُدركون أهمية القرآن، ويخشَون من الاهتمام بغيره، مع حرصهم على تبليغ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ بها.
ومما يدعو للأسف أنه قد حدث ما كان يخشاه الرسول عليه الصلاة والسلام، وصحابته من بعده، فكان انجذاب الأجيال اللَّاحقة نحو العِلْمِ وفُروعه على حِساب الاهتمام بالقرآن من حيث كونه مصدرًا للهداية والشّفاء”.
يقول الشيخ الداعية الكاتب محمد الغزالي: “هجر المسلمون القرآن إلى الأحاديث، ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة، ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلّدين، وكان تطوُّر الفكر الإسلامي على هذا النحو وَبالًا على الإسلام وأهله!، فقد روى ابن عبد البر في كتاب “جامع العلم” عن الضحاك بن مزاحم أنه قال: أتَى على الناس زمان يُعلَّق فيه المصحف حتى يُعَشش عليه العنكبوت، لا يُنتفع بما فيه، وتكون أعمال الناس بالروايات والأحاديث”(2).
والضحاك بن مزاحم الهلالي تابعي أخذ التفسير عن ابن عباس، وقيل عن ابن جبير، وقد أدرك آخر زمن الصحابة فما بالك بما بعده؟!!.
ثم يختتم مجدي الهلالي كلامه بقوله: “والذي يقرأ في هذه الخلافات – بعد أن يعيش مع القرآن ويَقرؤُه مرَّاتٍ ومرَّات بتدبُّر وترتيل وتأثّر – فإنه سيخرج بنتيجة مفادها أن هذه الخلافات ما هي إلا ثمرة من ثمار هَجْر القرآن، وأن صَيحات التحذير التي أُطْلِقَت مِن الجيل الأول، والتي تحذّر من الانشغال بغَير القُرآن، أو قِراءته بدُون فهمٍ ولا تأثّر لم تأخذها الأجيال المتلاحقة مَأْخذ الجدّ، بل وبدأَ الانبهار بالموروثات الثقافية للحضارات المختلفة، وكان ما كان من خلافات شغلت الأمة كثيرًا عن وظيفتها الأساسية”(3).
ولكن نكرر: هذا ليس ليس معناه عدم العناية بسنة رسول الله تدوينا وشرحا ودراسة، ولكن المشكلة التي أبعدتنا عن التركيز على القرآن هي الإقبال الشديد على الروايات، وعدم اتباعه منهج الصحابة في التعامل معها.
……………………….
هوامش:
(1) “إشكالية التعامل مع السنة” للشيخ طه العلواني ص:242.
(2) فقه السيرة النبوية للشيخ الغزالي ص:42.
(3) مجدي الهلالي: “تحقيق الوصال بين القلب والقرآن”، ص:55-57.
………….
في الحلقة التالية: تكملة أسباب تقليل معظم الصحابة لرواية الحديث ومنع بعضهم