تكملة أسباب تقليل معظم الصحابة لرواية الحديث ومنع بعضهم
السبب الثالث:- الاحتراز من انتشار ظاهرة الوهم والغلط في الرواية الحديثية:
روى أحمد وأبو يعلى في مسنديهما عن دُجين أبو الغصن، بصري، قال: قدمتُ المدينة فلقِيتُ أسلم مولى عمر بن الخطاب، فقلت: حدِّثني عن عمر، فقال: لا أستطيع، أخافُ أن أزيد أو أنقص، كنا إذا قلنا لعُمر: حدّثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أخاف أن أزيد حرفًا أو أَنقص، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مَن كذَب عليَّ فهو في النار”.
يقول د.صلاح الأدلبي: “لم يكن الصحابة يَكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم عَمْدًا لكونهم اختار الله لحَمْل أمانة هذا الدِّين، وتبليغهم لمن وراءهم، ولكن الصحابة بشَرٌ، فرُغم ما كانوا يتمتّعون به كسائر بني قومهم من صفاء الذهن وقوة الحافظة، فإنهم غير معصومين، ولذا فربما وهِمَ بعض الصحابة في رواية بعض الأحاديث، ولكن الصحابة الآخَرين ما كانوا ليَسكُتوا على الخطأ بل كان بعضهم يصحّح لبعض ما وَهِم فيه، كردِّ عائشة على صحابة آخرين في أنهم أخطئوا في ضبط نص الحديث”.
يضيف الإدلبي: “وأوهام الصحابة في الرواية قليل بالنسبة لمن بعدهم، فكثُر إسناد كلامٍ لصحابي أو تابعيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك القول المشهور: “حُبُّ الدُّنيا رأس كل خطيئة”، رواه البيهقي مرفوعا، وإنما يُروَى من قول عيسى عليه السلام، ومثله: “ادرؤوا الحدود بالشُّبُهات”، فقد رُوي مرفوعا بأسانيد ضعيفة، وروي موقوفا عن عدد من الصحابة، قال الترمذي وهو أشبه، ومثله: “كفى بالموت واعظا”، ومثل: “ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن”، وهكذا.
وكثيرًا ما نُسِبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقوال أَصْلُها مَرويَّة عن أحَد الحُكَماء أو الزهَّاد أو الأطباء، بل تسرَّبَت أقوال أهل الكتاب إلى بعض المحدِّثين، ولهذا نجد في الموضوعات كثيرا من القصص اليهودية والمسيحية، والأقوال الواردة في العَهْدَين القديم والجديد مما لا يُشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وربما كان قِسم من هذا تسرّب مع مسلمة أهل الكتاب إذ كانوا يحدثون أهل الإسلام بما في كتبهم، ويفسرونها لهم، ثم بدأ كثير منها يدخل بواسطة الرواة المغفَّلِين أو الوضَّاعين في دائرة الحديث النبوي”.!
ويقول الفقيه والمفكر طه جابر العلواني رحمه الله: “لا نَنسى دور العوامل السياسية التي كانت وراء تضَخُّم التراث الرّوائي الحديثي، فمما لا يمكن إنكاره أن هناك أحاديث تمَّ وَضْعها في إطار الصراعات السياسية والتّنازع على الشرعية، وتعزيز المواقف بالمرويَّات والأخبار إذ أنه من غير الممكن لمثل تلك النزاعات أن تُوجد ما يعزّزها أو يساندها في القرآن فلَجأت إلى المرويَّات والأخبار يَضَعُها بعضُهم، ويُروِّجها بعضهم”(1).
أقول: وفي منتصف القرن الأول الهجري إلى أواخر القرن الثاني استَفْحَلت ظاهرة تقوية وتعزيز الآراء الكلامية والعقديّة والسياسية والفقهية بالحديث المرفوع وذلك لِصِبغتها بالشرعية الدينية، فتمَّ رَفْع الآلاف مِن الأقوال التي أشار إليها الدكتور الإدلبي من قول صحابي أو حَكيمٍ أو زاهد أو مأثور إسرائيلي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك للردّ على طائفة معيّنة مثل أَهل الرأي من الفقهاء الذين ما كانوا يقبلون إلا النصّ الموثوق به والقياس، أو الردّ على بعض الفِرق كالقدريّة والمرجئة والشيعة والنواصب، وتمَّ وَضْع فضَائل الأشخاص خاصة كبار الصحابة للصراع المعروف بين شِيعتَيْ عليّ ومعاوية، فمُعظمها لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ما صحّ للإمام عليّ لم تصحّ لغيره كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وإن تم وَضْع كثير من فضائله مِن قِبل الشيعة، وأيضا تم وَضْع نبوءات عن النبي لم تَقَعْ للتمهيد على واقعة سياسية مثل قضيَّة المهديّ، وتم وَضْع كثير من أَشراط الساعة.
وقد برز نَزْرٌ يَسير من حُذَّاق المحدثين متنبّهين لهذا الخطر، ولكن بعد فواتَ الأَوَان، وكانت جهودهم قليلة جدًّا، بل كانوا قَطْرةً في بحر!، ولذلك قال الحافظ ابن كثير في “اختصار علوم الحديث”: “خَفِيَ هذا الفنّ (معرفة علل الحديث) على كثير من علماء الحديث، حتى قال بعض حفَّاظهم: مَعرفتُنا بهذا كَهَانةٌ عِند الجاهل”، يعني: أن العَارف بهذا الشان كان بمنزلة الكاهِن الذي يَعرف ما لا يعرف من حوله.
وكان الإمام شعبة بن الحجاج [توفي 160هـ]، من أوائل مَن طفق يسأل الرَّواي: هل سمعتَ هذا عَن فُلان، فيقول بعضهم: لا، بل بلغني عنه، ويغضب بعضهم من هذا السؤال، لأن الرواية فيما بعد عَصْر الصحابة وعصر الدولة الأموية وبداية عصر الدولة العباسية أصحبت فوضوية بالمرَّة، وكل شخص يروي ما بلغه عن فلان، بغضِّ النظر هل سمع منه مباشرة أم لا؟!، وكان شعبة أوَّل مَن ميّز بين المقطوع والموصول، ولهذا قال الشافعي: “لولا شعبة ما عُرِف الحديث بالعراق”.
ثم جاء بعده علماء تفنَّنوا في هذا الفن مثل يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، ثم جاء أبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي والبخاري وعليّ ابن المديني، فهؤلاء أصبحوا عُمدة في معرفة علل الحديث الخفيَّة، وصنَّف الحافظ عبد الرحمن ابن أبي حاتم كتابه (العلل في الأحاديث)، فكان يروي عن أبيه أبي حاتم وعمّه أبي زرعة رَأْيهما في آلاف مِن الأحاديث المرفوعة التي نَراها اليوم كأنها صحيحة مرفوعة في كتب السُّنن بل في الصحاح والمسانيد والمعاجم، فينتقِدَانها بِذكر العلل بالإرسال والوقف.
ومَن أَدام مطالعة كُتُب المتقدّمين كمُصنّف عبد الرزاق، وجامع معمر، وموطأ مالك، وسنن سعيد بن منصور، ومصنف ابن أبي شيبة، وكتاب الزهد لوكيع، وابن المبارك يُدرك أن مُعظم الأحاديث المرفوعة كانت في أصلها موقوفة.!!
ثم جاء بعدهم الدارقطني وكان أيضا آية من آيات الله في هذا الشأن: معرفة العلل، وصنف كتابه “العلل” الذي قال فيه الذهبي: “إذا شئتَ أن تبيّن براعة هذا الإمام الفرد فطَالِعْ “العلل” له فإنك تندهش ويطول تعجبك”!!، وقد يقول بعضهم: لماذا ألَّفَ كتابه “السنن” وفيه كثير من الواهيات؟!، الجواب: أنه صنف لبيان العلل في أحاديث الأحكام، ومن المشهور أن الدارقطني انتقد صحيحَي البخاري ومسلم، وصنَّف فيهما كتابه المعروف بـ(التَّتبُّع)، فذكر مئات من الأحاديث المعلة فيهما.
وبه خُتم معرفة هذا الشأن وأُسْدل الستار عنه، بعد كان عزيزًا بين أهل الحديث أنفسهم كما تقدَّم في قول ابن كثير، حتى قال ابن رجب في شرح الأربعين: “كان أبو زرعة في زمانه يقول: قَلَّ مَن يفهم هذا، وما أعزَّهُ إذا رفعت هذا عن واحد واثنين فما أقلَّ مَن تجد مَن يُحْسِن هذا”. قال ابن رجب: وجاء بعد هؤلاء جماعة منهم النسائي والعقيلي وابن عدي والدارقطني وقلَّ مَن جاء بعدهم مَن هو بارع في معرفة ذلك حتى قال أبو الفرج ابن الجوزي في أوّل كتابه الموضوعات: “قلَّ من يَفهم هذا بل عُدِم”، أي أنّ بساطه قد طُوي.
السبب الرابع:– مَنْع التدوين لم يكن سياسيا كما تراه الشيعة الإمامية:
يقول الشيخ جعفر السبحاني: “الظاهر أنّ السبب الواقعي لعدم الاهتمام بكتابة الحديث، هو نَهْي الخلفاء عنها لدافعٍ سياسي، وقد حَظي هذا الدافع من الأهمية بمكان حتى أنّ عمر ابن الخطاب قال لقرظة بن كعب: جرِّدُوا القرآن، وأقلُّوا الرواية عن رسول اللّه، وأغلب الظنّ أنّ الوجه في مَنْع تدوين الحديث ونَشْره ومُدارسته ومُذاكرته وكتابته بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم هو نَفْس الوجه الذي مَنع مِن كتابة الصحيفة يوم الخميس عند احتضار النبي”.
يضيف الشيخ السبحاني ومعه كثير من الشيعة الإمامية: “وهذا الوجه نفسه صار سبباً لمنع تدوين الحديث بعد رحيله لما في أحاديث الرسول من التركيز على ولاية عليٍّ عليه السلام فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن صدَّع بالدعوة وجهر بها، نصَّ على فضائل عليٍّ ومناقبه في مُناسبات شتى”(2) .
أقول: الجواب على ذلك لأمور:
1. أن المنع من التدوين لم يأت مِن عُمر وحده، بل أتى عن النبي صلى الله عليه وسلم وتبعَه عليه أبوبكر رضي الله عنهما، إلا ما كان في نطاقات محدودة كما شرحناه بالتفصيل.
2- أن فضائل الإمام عليّ عليه السلام – وإن حاول الأمويون والنواصب إخفاءها وإتلافها عبر الزمن – فإنها انتشرت انتشار النار في الهشيم، فالحقُّ سيَظهر لا محالة، فهاهي فضائل عليّ تعجُّ بمصنَّفات أَهل السُّنة درَّة تتلألأ، حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: “ما رُوِى لأَحَدٍ مِن الفضائل أكثر مما رُوي لعليّ بن أبي طالب”، رواه عنه أولاده وأصحابه، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فقد صنّف الحافظ النسائي كتابه المشهور “خصائص أمير المؤمنين عليٍّ” وروَى فيه أكثر من مائتي حديث معظمها صحيحة أو حسنة.
أما قول الإمام ابن تيمية – غفر الله له ولنا – في كتابه “منهاج السنة النبوية”: “وقولُ مَن قال: صحَّ لعليٍّ من الفضائل مالم يصحّ لغيره كَذِبٌ لا يقوله أحمد ولا غيره من أئمة الحديث، لكن قد يقال: رُوي له ما لم يرو لغيره لكن أكثر ذلك مَن نقل مَن عُلم كذبه أو خطؤه”، وفي مكان آخر من “المنهاج” يقول ابن تيمية: “وأحمد بن حنبل لم يقُل إنه صحّ لعليّ من الفضائل مالم يصح لغيره، بل أحمد أجلّ من أن يقول مثل هذا الكِذْب “.(3)
أقول: فهذا مما سُجِّل له رحمه الله من انحرافه عن الإمام علي ابن أبي طالب وعن أهل البيت عموما كما لا يخفى على كل مُنصف متجرّد من المذهبية والتعصُّب!.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمة ابن المطهر الحلي من كتابه “لسان الميزان”: “طالعتُ الرّد المذكور [يعني كتاب “منهاج السنة”] فوجدتُّهُ كثير التحامل إلى الغاية في ردّ الأحاديث التي يُوردها ابن المطهر، وإن كان معظم ذلك من الموضوعات والواهيات، لكنه ردَّ في ردِّه كثيرا من الأحاديث الجياد التي لم يستحضر حالة التصنيف مظانّها، لأنه كان لاتّسَاعه في الحفظ يتَّكِل على ما في صدره، والإنسان عامد للنسيان، وكم مِن مُبالغة لتوهين كلام الرافضي أدَّتهُ أحيانا إلى تَنقيصِ عليِّ رضي الله عنه، وهذه الترجمة لا يحتمل إيضاح ذلك وإيراد أمثلته”.
وفي ترجمة ابن تيمية من كتابه “الدرر الكامنة” قال الحافظ ابن حجر أيضا: “ومِن العلماء مَن يَنسبُه إلى النفاق لقوله في عليٍّ ما تقدَّم… ولقوله: أبو بكر أسلم شيخاً يَدْرِي ما يقول، وعليٌّ أسلَم صبيًا، والصبيُّ لا يصحُّ إسلامه على قولٍ،… وما يؤخذ من مفهومها فإنه شنَّع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: “ولا يبغضك إلا منافق “.
أقول: والمثال الواضح الجليّ لانحراف ابن تيمية عن عليٍّ عليه السلام بين يديك الآن دعُونا نكُن موضوعيين!!، فلا نريد ظُلْم الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية، فها هو يَرفُضُ ويفنِّد قَول الإمام أحمد الذي رواه عنه كلٌّ من ابنه عبد الله، وأحمد بن سعيد الرباطي، ومحمد بن منصور الطوسي، وحمدان الورَّاق رواه عنهم الحاكم وابن عساكر وابن الجوزي، ولإن الإمام النسائي أورد في كتابه “خصاص عليّ” للإمام عليّ من الفضائل أكثر مِن مائتي حديث مُعظمها صحيحة أو جياد وحسنة فما بالُك بغيره من أهل الحديث الرَّاوين في فضائل عليّ؟!، وهل هناك صحابيٌّ رُوِيت له مثل تلك الفضائل عددًا وصحَّة؟!!.
4- يقال للشيخ السبحاني وغيره من الإخوة الشيعة الإمامية: إن الإمام عليّا عليه السلام وهو المعصوم عندكم مكث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين عاما، ولم يتقلَّد منصبًا كبيرا كالوالي وغيره، بل كان في المدينة المنورة مُستشارا وقاضيا، فهذا وقت ٌكاف جدًّا وممتدّ.
فإن قلتَ صار هناك مَنْعٌ مِن قِبل دولة عمر بشأن الرواية وتدوين الحديث، فهذا الأمر إذا افترضنا أن عليًّا امتثل لهذا الأمر ما كان موجودا في خلافة عثمان، بل كانت خلافته أقل صرامة من خلافة عمر، واستمرت خلاقة عثمان اثني عشر عاما، ألم يكن وقتا كافيا، فلماذا لم يُدوّن هو بنفسه الأحاديث مع أن الصحابة كانوا متوّفرين في المدينة، ولديه جميع الأدوات والأجواء التي توفّره ذلك؟!! وذلك بالاستعانة بأبنائه السّبطَين وابن الحنفية وغيرهم، ولماذا لم يأمر ذلك عندما استلم السلطة وصار خليفة للمسلمين له شوكة وسلطة؟!!.
بل إن الحقيقة الجلية المدوّية أن الإمام عليا عليه السلام – كما رواه عنه أخص خواصه الحارث الأعور، وجابر الجعفي عن عبد الله بن يسار – أنه حثَّ أهل الكوفة على التركيز على القرآن، والتقليل من الرواية الحديثية، فهذا كافٍ في تفنيد مزاعمكم وافتراضاكم وتخميناتكم، وتحميلكم المسؤولية لعمر بن الخطاب وحده!!، الذي سببه الانحراف عن عمر رضي الله عنه والتحامل عليه!!.
ثمرة انتقال المسلمين من جيل التلقّي للقرآن إلى جيل الرّواية:
يُقسّم الشيخ الفقيه طه جابر العلواني في كتابه “إشكالية التعامل مع السنة” أجيال المسلمين في القرون الخمسة الأولى إلى أربعة أجيال: جيل التلقّي، وجيل الرّواية، وجيل الفقه، وجيل التقليد.
فجيل التلقّي الذي عاصر عصر تنزيل القرآن كان مرتبطًا بالقرآن، ولقد كانت الصورة الواضحة في أذهان هذا الجيل تَجعل الإشكالية بين الكتاب والسُّنة مُستبْعَدة الإثارة، فالناس ألِفُوا أن يسمعوا تلاوةً مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحويل هذه الآية المنزلة إلى واقع يَعيشه الناس، وتُجيب عن أسئلتهم واستفساراتهم، وتُبيّن لهم الحلال من الحرام.
يقول العلواني: “ولذلك لم يجد أصحابه في أنفسهم حاجة أن يسألوا النبيَّ إلا خمسة عشر سُؤالا ذكَرها القرآن الكريم، وقد يَنتظِر الرسول شَهرًا أو أسابيع”، ويضيف: “كان الفقه الذي بُنِيت عليه تشريعات الأُمَّة شَرعًا إلـهيَّا قُرآنيا محضًا، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم باتّباعه وتبليغه وبيانه وتعليمهم كيفية تطبيقه، وكان هذا الفهم من الأمور الضرورية البدهية، لم يوجَدْ مَن يجادل فيه أو يناقش، لأنه ما مِن أحدٍ منهم تجاوز بالسُّنة مَرتبة البيان لأحكام القرآن، ولم يَقُل النبي صلى الله عليه وسلم مرَّة واحدةً بأنه له حقّ التشريع إلى جانب القرآن الكريم، لأن القرآن ما فرَّط بشيء أوّلا، ولأن البيان ليس إنشاءً للحُكم على سبيل الاستقلال، لأن الحُكم ورادٌ في القرآن، ورسول الله يُبيّنه بالقول وبالفعل والتطبيق”.
ويرى العلواني أن جيل التلقّي كلّه كان جيلا صافيا نقيًّا لا طوائف فيه، ولا فِرَق ولا ولا مذاهب فقهية ولا صراعات سياسية.
أمّا جيل الرّواية فقد بدأ بعد عصر الفتنة الكبرى وانتشر في عهد عمر بن عبد العزيز حتى قرر تدوين الحديث والآثار. يقول العلواني: “ما إن بدأ عَصر التّدوين بدأ الناس يعتمدون على السُّنن المرويَّة لا بِوَصْفها فِقهًا نَبويّا في الكتَاب العزيز، وبيَانًا له وتطبيقًا لأحكامه واتّباعًا لتلاوته، بل بوَصْفِ السّنن مُوازِية للقرآن، وربما بدأ بعضهم يُقدّمُها على القرآن ذاته، وأصبح القرآن مهجورا أو مُحيَّدًا بشكل كبير، فالقرآن حَمَّال أوجهٍ عند الجماهير، وهو مُعجز بلفظه، فلا يَسْمُوا إلى آفاقِ فَهْمه إلا القلائلُ، ولم يَعُدْ كثيرون يتذكَّرون أن القرآن أَيْسَر مِن سائر الكُتب، يقول تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} وانصرفَ الناسُ نحو الفقه والسُّنن، وبدَأت فكرةٌ خاطئة تَشِيع بين الناس، ويجري تطاولها بين الطَّلَبة وهو أن القرآن يحتوي على آيات أحكام لا تتجاوز 500 آية فقط!!”.
يضيف العلواني: “ثم بدأ بعضهم يتجاوز هذا الأمر ليُدرِج جميعَ السنن بوَصْفها مصادر للأحكام حتى السُّنن التي لا تُفيد أحكامًا بشكل مباشر عدَّوهَا مِن سُنن الأحكام، ومن هنا بَدأت تتضَّح معالم الانقسام بين علماء الأمة ما بين أهل الحديث وأهل الرأي وغيرهم،.. وزال ذلك الحرص الشديد الذي كان في جيل التلقّي وفي أذهان قيادته على أن لا يُشَابَ القرآن بِغَيره أيًّا كان ذلك الغَيرُ، وانشغل الناس انشغَالا مُستغرقا بالآثار والمرويات حتى صار القرآن مجرّد مصدر للشواهد التي يستشهد بها الكَلاميُّ والأصولي والفقيه وغيرهم، ولم يكن أَحدٌ مِن قادة جيل التلقّي يتخيّل أن يأتي يوم على المسلمين يتجادلون في أقوال غثيثة” (4).
أقول: وسيأتي في الحلقة القادمة أن الجدل بشأن مَرتبة السُّنة مِن القرآن إنما أتى بعد جيل التّلقي فتمَّ وَضْع حَديث “عَرْضُ الحديث أو السُّنة على القرآن” الذي كان أصله مذهبا لأتباع التابعين العراقيين وأهل البيت، وهو في أصله مذهب الصحابة وفقهائهم، كما تم وَضْعُ حديث الأريكة وأمثاله التي تُسَاوي السُّنة مع مرتبة القرآن كوَحيَيْنِ منزَّلَين من الله، وإنما كان في أصله قولًا لبعض أهل الحديث الشاميين أو البصريين المعارضين للعراقيين من أتباع التابعين أو بعض القادة للمسلمين الذين كانت لهم أغراض سياسية في وَضْع أحاديث تقويّ مواقعهم السياسية والدينية!!.
هوامش:
(1) “إشكالية التعامل مع السنة”، للشيخ طه العلواني ص:213-214، وانظر أيضا “ظاهرة نقد المتن عند علماء الحديث” للدكتور الإدلبي ص: 63-66.
(2) الحديث النبوي بين الرواية والدراية، للشخ جعفر السبحاني ص:27.
(3) “منهاج السنة النبوية” 8/421، 7/337.
(4) “إشكالية التعامل مع السنة”، للشيخ طه العلواني ص:187.
…………….
في الحلقة التالية: منهج عرض المرويات الحديثية على القرآن وردّها إذا خالفته عند الصحابة