المحور الرابع
منهج عرض المرويات الحديثية على القرآن وردّها إذا خالفته عند الصحابة (القسم الأول):
هذه المنهج اختلف فيه أهل الحديث وغيرهم من أهل الرأي والكلام: هَلِ الحديثُ النبوي خاصة إذا لم يكن متواترا إذا صحّ سنده وفقًا لمعايير قَبول الحديث يُعتمد عليه مطلقا مثل القرآن، أم يخضع للقرآن فيردُّ إذا خالفَه، ويُقبَل إذا لم يخالف؟!.
قال أهل الحديث: إن الحديثَ إذا صح – وفقا لقواعد وضعوها – يكون مِثْلَ القرآن لا يمكن أن يخالف القرآن، كما أن القرآن لا يخالف بعضه بعضا، فإن حصل ذلك ظاهرا فيمكن الجمع بينهما.
يقول الإمام ابن حزم في كتابه “أصول الأحكام”: “ليس في الحديث الذي صحَّ شيء يخالف القرآن الكريم، ولا سبيل إلى وجود خبَر صحيح مخالف لما في القرآن أصلاً، وكل خَبَر شريعة فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه ومفسِّرٌ لجملته، وإما مستثنى منه لجملته، ولا سبيل إلى وجه ثالث”.
وقد تبع الإمام الشافعي رحمه الله أهلَ الحديث في ذلك، ودافع عن هذه النظرية في كتابيه “الرسالة” و”اختلاف الحديث”.
وقال الإمام ابن بطة العكبري وهو من أكابر الحنابلة الذين ألَّفوا في عقائد أهل السنة:”أمرنا الله أن نَسمع ونُطيع الرَّسول، ولا نضرب لمقالته عليه الصلاة والسلام المقاييس ولا نلتمس لها المخارج، ولا نعارضها بالكتاب العزيز ولا بغيره، ولكن نتلقَّاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية”(1).
وقد بين الإمام البربهاري وهو من كبار الحنابلة المؤلِّفِينَ في الاعتقاد في هذه النقطة – أي محوريّة السنة النقلية أكثر من القرآن- بعبارة أكثر وضوحًا فقال في كتابه “شرح السنة” وهو مؤلَّفٌ صَغيرٌ طُبع عدة مرات: “اعلموا أن الإسلام هو السنَّة، والسنَّة هي الإسلام، ولا يَقُوم أحدهما إلَّا بالآخَر.. وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده، ويريد القرآن، فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم من عنده ودَعْه”.
وروى أهل الحديث في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:”ألا يوشك رجلٌ شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا إني أُوتيتُ القرآن ومثله معه”، وهو حديث شامي معروف بحديث الأريكة، له طرق كلها ضعيفة، وهناك أبحاث علمية أجريت فيه روايةً ودرايةً، فلا نطيل بذكرها.
وروى أهل الحديث أيضا آثارًا عن بعض أتباع التابعين خاصة من الشاميين والبصريين، فعن مكحول الشامي قال: “القرآن أحوجُ إلى السُّنة مِن السُّنة إلى القرآن”، ورووا عن يحيى بن أبي كثير -وهو من صغار التابعين- قال: “السُّنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاضٍ على السّنة”، أي: أن السّنة هي المعيار الأساسي لأخذ الأحكام الشرعية، والقرآن تابع لها لكون السنة هي التي تفسّره.
وهذه الكلمة استثقلها الإمام أحمد بن حنبل ولم يستصغها عندما سئل عنها، فقال: “ما أَجسَرُ على أن أقول: إن السنة قاضية على الكتاب، ولكني أقول: إن السنة تُفسّر الكتاب وتبيّنه”.
وقال أبو المظفر السمعاني في “الأدلة في الأصول”: وذهب جماعة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنه يجب عَرْضُ الحديث على القرآن، فإن لم يكن فى القرآن ما يدُلّ على خلافه قُبِلَ وإلا فيُرَدُّ، وذهب إلى هذا كثير من المتكلّمين”.
أقول أما الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا رُوي عنّي حديثٌ فاعرضُوه على كتاب الله، فإذا وافقه فاقبَلوه، وإن خالفه فردوه”، فلا يصح أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك هذا التنازع حول مَرتبة السُّنة، كما حكينا في الحلقة الماضية عن طه العلواني في وصفه لجيل التلقّي، وقد بالغ أهل الحديث فنسبوا هذا الحديث إلى وَضْع الزنادقة والملاحدة.
وإنما يروى هذا القول عن طريق أهل البيت والعترة مثل الإمام جعفر بن محمد الصادق واشتهر عنه، لأنه أَخذه عن آبائه كالباقر وزين العابدين، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو رواية عن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، حيث ردّ حديث غَسْل الإناء الذي ولَغَ الكلبُ فيه سبع مرَّات لمخالفته للقرآن الكريم كما في المدوَّنة، وللإمام مالك أصُول في قبول الرواية منها ألا تخالف عمل أهل المدينة، وقد قارب مالك في ذلك فُقهاء العراق.
وقال الشيخ الفقيه المفكّر طه جابر العلواني: “فِكرة عَرْض الحديث على القرآن فِكرةٌ سليمة لا غُبار عليها، والقَولُ بها ليس بدعة في الدّين، فقد كان موجودًا في عصر الصحابة، ولكنهم في الواقع لم يستعملوها على أنها مَبْدأ مُلتزم به، بل على أنها حُكْمٌ عند التنازع، وأَصْلٌ يُرجع إليه عند الاختلاف أو الشكّ في صحة الحديث، ولهذا رأَى السّنديُّ أنَّ العَرْض المذموم هو الذي يُقْصَد منه ردُّ الحديث بمجرّد أنه ذَكَر ما ليس في القرآن.
يقول الشيخ أبو زهرة من كبار شيوخ الأزهر وصاحب التصانيف: “ومِن هَذا تَرى أن فقهاء الرأي الذي لا يقبلون الأحاديث إلا بعد عَرضِه على المحكَمِ من القرآن الذي لا يحتاج إلى بيان قد اعتمدوا في منهجهم على الصَّحابة كأبي بكر وعمر وعائشة وغيرهم، وحَاكُوهم في منهجهم، ولم يُباعدوا عن سمتهم فما كانوا مبتدعين، ولكن كانوا مُتَّبعين”(2).
أقول: وهذا المحور المهمّ معقود بأن هذا القَول ليس مِن وَضْع الزنادقة والملاحدة والرَّوافض والمعتزلة!!، وليس هو قول الحداثيين والقُرآنيين، بل هو قول كبار الصحابة وفقهائهم رضوان الله عليهم..فلنأخذ من النماذج الحية من هذا المنهج:
النموذج الأول: عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
روت فاطمة بنت قيس وهي صحابية مشهورة أنَّ زوجها طلّقها ثلاثًا فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها سكنى ولا نفقة، فسَمِع عمرُ بن الخطاب ذلك فقال: “لا نَتركُ كتابَ الله وسنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم لقَول امرأةٍ لا نَدْرى لعلّها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عزَّ وجلَّ: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ}، أخرجه مسلم في صحيحه.
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه ردَّ حديثَ فاطمة بنت قيس لمخالفته للقرآن، فقد استعمل قاعدة عَرْض الرواية على القرآن، كما أنه لم يَقبل بخَبر الواحد إذا خالف الأصول.
وقد أيّدت عائشة ردَّ عمر على حديث فاطمة، فروى البخاري ومسلم عنها أنها قالت: مَا لِفَاطِمَة خَيْر أَنْ تَذْكُر هَذَا، ألا تتقي الله في قولها؟!.
لكن الشيخ العلامة محمد بن صالح بن العثيمين رحمه الله قام بتخطئة عُمَر في قوله، فقال في “شرحه لصحيح مسلم: “نحن لا نشكُّ أن فاطمة أَعلَمُ مِن عُمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه المسألة، لأن عمر رضي الله عنه استدلَّ بما لا مستدلَّ له به، لأن قوله: “لا نترك كتاب ربنا”، نقول: أين كتاب ربنا؟!! كتابُ ربّنا يدلُّ على أن هذا في الرَّجعيات”!.
لكن الدكتور صلاح الأدلبي وجَّه قول عمر توجيهًا حسنًا، فقال: “وإذا كانت الآية في المطلقة الرجعية، فإن الآية الأخرى تعمُّ الرجعية وغيرها قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}، وليس فيها عدم الإنفاق إلا إذا كانت حاملا بل فيها الإنفاق على الحامل إلى غاية وضع الحمل لأن العدة لا تنقضي قبل أن تضع الحامل”.(3)
النموذج الثاني: علي ابن أبي طالب رضي الله عنه:
اختلف الصحابة في مسألة فقهية حادثة، وهي: أن رجلا تزوج بامرأة ولم يفرض فيها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها مثل صداق نسائها، ولا وكسَ ولا شطط، وعليها العِدّة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق -امرأةً منَّا يعني أشجعية- مِثل الذي قضيتَ، ففرح بها ابن مسعود.
هذا حديث صحيح، رواه أهل السنن والمسانيد.
لكن الإمام عليّا ابن أبي طالب أفتى بأنه لا صَداقَ لها، فذُكِر له قَول ابن مسعود، وحديث معقل بن سنان الأشجعي عن النبي، فقال: “لا نَقْبَل قولَ أعرابيّ مِن أَشْجَع على كتابِ الله”، رواه سعيد ابن منصور والبيهقي في السنن الكبرى من طريق أبي إسحاق الكوفي عن مزيدة بن جابر عن عليّ، وقد ضُعّف مزيدة هذا، بقول أبي زرعة: ليس بشيء، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات.
ولكن له طريق آخر فروى عبد الرزاق في مصنَّفه عن معمر عن جعفر بن برقان عن الحكم بن عتيبة أن عليَّا كان يجعل لها الميراث، وعليها العدَّة، ولا يجعل لها صداقا قال الحكم: وأُخْبِر بقَول ابنِ مسعودٍ فقال:لا تُصدَّقَ الأعْرَابُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما ما روي عنه بلفظ: “لا نقبل قول أعرابي بوَّالٍ على عَقِبيه”، فمُقحَمٌ كما يبدو، وليس بقول لائقٍ، بل هو محكي عن ابن عمر في أبي ثعلبة كما سيأتي، ولم أجد له إسناد أيضا.
فقد ردّ الإمام عليٌّ عليه السلام حديثَ معقل بن سنان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق، وذلك لمخالفته للقرآن الكريم، قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ومَتِّعُوهُنَّ}.
قال الدكتور الإدلبي: “في الآية أن المطلَّقة قبل الدخول وقبل الفَرْض لها لا تستحقّ الصَّداق، وهذا بالإجماع، فالظاهر أن المتوفّى عنها كالمطلَّقة، بل ربما كان حُكْمها من باب أولى لأن المطلقة قد رجح مفارقتها باختياره، وليس كذلك المتوفى، وأقلُّ ما في الأمر أنَّ كلًّا منهما فِراقٌ في نكاح قبل الفَرْض وقَبل الدخول”.
أقول: هذا المنهج الذي اعتمد عليه الإمام عليٌّ يشتمل على ثلاثة أمور مهمّة بالنسبة لنا في دراستنا: أولاها:عَرْضُ الرواية الحديثية على القرآن، ثانيها:ردُّ خَبر الواحد إذا خَالفَ القرآن والأصول، ثالثها: عدم اعتبار عدالة الصحابي في القَبول بالرواية عند أهل السنة، لأن معقل بن سنان صحابي بالإجماع، شهد فَتْح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وحمل لواء قبيلة أشجع يوم الفتح، ولكن عليًّا لم يقبل روايته، لماذا؟ أليس صحابيا؟!!، وهذا دليل واضح على أن قواعد علم الحديث التي وُضعت بجهود علماء الحديث بعد القرن الثالث الهجري ليست مُسلَّمة بها كالرياضيات، ومن خالفها يكون مبتدعا أو زنديقًا،!! كما شرحنا ذلك في المقدمة.
وسيأتي في منهج قبول خبر الواحد أن عليًّا كان لا يأخذ من الرواية إلا بعد الاستحلاف منه.
النموذج الثالث: عبد الله بن عمر ابن الخطاب:
قال القرطبي: ورُوِي عن ابن عمر أنه سُئل عن لحوم السّباع فقال: لا بأس بها، فقيل له: حديث أبي ثعلبة الخشني؟!، فقال: لا نَدعُ كتابَ الله ربّنا لحديثِ أعرابي يَبُول على سَاقيه.
أقول: ولكن لم أجد هذا إلا في تفسير القرطبي المعروف بـ “أحكام القرآن” بغير سند بعد البحث عنه، إلا قول السيوطي في “الدر المنثور”: أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر وعائشة قالا: لا بأس بأَكْل كلِّ ذي شَيء إلا ما ذكر الله في هذه الآية :{قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍۢ يَطْعَمُهُ}.
ورَوى ابن جرير الطبري في تفسيره من طريق القاسم بن محمد عن عائشة أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا، والحمرةِ والدم يكونان على القدر بأسًا، وقرأت هذه الآية: {قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍۢ يَطْعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍۢ}، وروى ابن أبي حاتم في التفسير من طريق القاسم قال: كانت عائشة إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، تقرأ هذه الآية.
واستشهادُ عائشة َلهذه الآية دليل على أنها كانت تلمح لردّ حديثي أبي ثعلبة وأبي هريرة، بل صرح القرطبي بذلك فقال: وقال القاسم: كانت عائشة تقول لما سمعت الناسَ يقولون حُرِّم كلّ ذي نابٍ من السباع: ذلك حَلال، وتتلو هذه الآية:{قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا}.
وحديث أبي ثعلبة الخشني أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن أكلِ كُلِّ ذي نابٍ مِنَ السِّباعِ، أخرجه البخاري ومسلم، وحديث أبي هريرة مثله أخرجه مسلم.
وبغضّ النظر عن تخطئة عائشة في هذه المسألة ومجانبتها للصواب، فإنها لو كانت حيَّة اليوم وقالت بهذا القول فماذا عسانا أن نقول بحقّها؟!، بالتأكيد لم نكن لنتردّد في حُكمها على كونها قُرآنيــَّـــــة تنكر السنة الثابتة!.
وقد يُجاب عن مذهب عائشة في تحليلها أكل السِّباع لعدم ورودها في القرآن، بأنها أوَّلا قاعدتها صحيحة بالجملة وهي عَرْضُ السُّنة على القرآن، ولكن ما جاء مِن تحريم النبي صلى الله عليه وسلم أشياء ظَاهِرُها أنها تَشريعٌ مُستقلٌّ عن القرآن قد يُفهَم بعد التدبّر أنه غير مُستقلَّ بل له أَصْلُ مجمل في القرآن، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه وتَفْصِيله، وهذا هو دَأْب السُّنة أن تفسر لما أُجمل في القرآن مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومناسك الحجّ، وكيفية قَطْع يَد السارق إلخ.
فمثلا تحريم أَكْل السّباع والجوارح مِن ذَوات الناب والمخلب له أصل في القرآن في قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}، فكثير من الجوارح والسِّباع تتغذَّى على الجِيف إمّا طبعا كالضّباع والنِّسر، وإما اضطرارًا كسائر السباع والجوارح، وهناك أصل قرآني يحرّم الخبائث:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، وكذلك تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها وبين المرأة وخالتها، له أصل في القرآن:{وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، لأن العلة واضحة وهو أن كلَّ امرأَتين مِن أهل النَّسَب أو الرّضاع لو قُدِّرت أو بُدّلت إحداهما ذكَرًا حُرّمت الأُخرى عليه؛ فالجَمْعُ بينهما حرام، فهذه قاعدة صحيحة، وسبب التحريم هو الحيلولة دون تحوُّل الشحناء إلى قطيعة الرحم بينهما لأجل الغيرة الشديدة لطباع النساء.
وكذلك حرمان النبي صلى الله عليه وسلم من إرث القاتل للمقتول، له أصل في القرآن، قال تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا}، فسَدًّا لباب استعجال الوارث طَمَعًا في مال الموروث تدفعه لارتكاب جريمة القتل، فإنه تم حرمانه من الإرث، وهذا من عظيم الاستنباطات الدقيقة.
إلا أن منهج عَرْض الحديث على القرآن مَنهج صحيح بالجملة، فهذه المخارج التي ذكرتُها مِن أحاديثَ ظاهرُها أنها مستقلّة بالتشريع عن القرآن ليست كلها مطّردة، فهناك أحاديث تم ردُّها لمخالفتها لما في القرآن، وهناك معايير أوضحها الصحابة، وذِكْرُ الأمثلة على ذلك سيأتي بعضُها.
نذكر من تلك المعايير التي ذكرها فقهاء الصحابة مَثلًا أن الحدود الجنائية مُقرَّرةٌ ومقدَّرةٌ في القرآن الكريم مثل حدّ القصاص في النَّفس والجُروح، وحدِّ السَّرقة، وحدِّ القَذْف، وحدِّ الحرابة، وحدِّ الزاني، فكل ما لم يَرد في القرآن لا يكون حدًّا بل يكون تعزيرًا، مثل حدِّ شارب الخمر، وحدِّ الردّة، فلِلحَاكم أن يقرر ذلك تعزيرًا حسب حال المرتكب والوضع، مع أن جمهور فقهاء المسلمين ذهبوا إلى أن حدّ شارب الخمر مقدَّر أقله أربعون، وأكثره ثمانون، وذهبوا أيضا إلى قَتْلِ المرتدّ حدًّا.
ولكن صرح الإمام عليّ ابن أبي طالب الذي كان ممن أشار على الخليفة عُمر زيادة حدِّ شارب الخمر مِن أربعين جلدًا إلى ثمانين صرّح بأن حدّ الشارب والمسكر حدٌّ تعزيريّ قرّره الصحابة استنباطا واجتهادًا، فرواه الشيخان في صحيحهما عن عليّ قال: ما كنتُ لأدي (أي لأعطي الدّية) مَن أقمتُ عليه حدًّا، إلا شارب الخمر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنّ فيه شيئا، إنما هو شَيء قُلناه نحن.
وبه قال ابن عباس، فقد روى أبوداود في سننه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤقَّت في الخمر حدًا.
أي: لم يحدّد النبي صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر حدًّا معيّنا، حيث أمر في بعض الأحيان بضَربه بنَعْلٍ أو باليَد أو بالثَّوب كما رواه أبوهريرة، وفي بعض الأحيان جَلد بأربعين جريدة كما رواه أنس، وفي بعض الأحيان لم يجلد فيه شيئا كما رواه ابن عباس، كل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي هريرة في صحيح البخاري قال: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، قَالَ: “اضْرِبُوهُ”، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، وَالضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، قَالَ: “لاَ تَقُولُوا هَكَذَا، لاَ تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ”.
وهذا دالّ على أن عدم تقدير الحدّ للشارب كان مقررًا إلى وقت إسلام أبي هريرة وما بعده، بل عندي دليل أوضح من ذلك حيث روى البخاري أيضا عن عقبة بن الحارث قال: جيء بالنعيمان أو بابن النعيمان شاربًا، فأمَر النبي صلى الله عليه وسلم مَن كان بالبَيتِ أن يضربوه، فضربوه، فكنتُ أنا فيمن ضَرَبه بالنّعال.
وعقبة بن الحارث هو ابن عامر بن نوفل بن عبد مناف، أسلم عام فتح مكة، وهذه الرواية تدلًّ على أن ضَرْب شَارب الخمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر حياته كانَ أمرا تأديبيا تعزيريا حَسب الوضع والحال.
أمّا تأويل بعض الشرّاح لقول الإمام علِيٍّ: (لم يسنّ فيه شيئا، إنما هو شَيء قُلناه نحن) بأن ذلك ما زاد على الأربعين، فتأويلٌ لا يَدعمُه الصِّياغ!.
النموذج الرابع: عبد الله بن عباس:
روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حُمُر الأهلية، فقال: قد كان يقول ذاك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى ذاك البحرُ ابنُ عباس وقرَأ:{قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا}.
أقول: والحكم بن عمرو الغفاري من الصحابة الأجلاء، وقد ردّ ابن عباس روايته كما ترى، مع أن الحَكَم الغفاري لم يتفرَّد به، فقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كل من عليٍّ، وابن عمر، وجابر بن عبدالله، وأنس، وابن أبي أوفى، والبراء بن عازب، وأبي ثعلبة، وأبي هريرة.
لكن ابن عباس تمسك بالآية الكريمة التي تصرّح بأنه لا يوجد طعام محرّم بالوحي قطعا إلا ما ذكرته، ورأى أنها الأصل في المحرمات من الأطعمة في الدَّوابّ، وردّ ما يخالفها من الأحاديث التي استلحقت تحريم بعض الدَّواب، فروى ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ليس من الدَّوابّ شيء حرام إلا ما حرم الله في كتابه، وقرأ:{قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا}.
هوامش:
(1) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، لابن بطة 1/264.
(2) “إشكالية التعامل مع السنة”، للشيخ طه العلواني ص:170.
(3) منهج نقد المتن عند علماء الحديث، مرجع سابق.
……………….
في الحلقة التالية: تكملة منهج عرض المرويات الحديثية على القرآن (نموذج عائشة).