المحور الخامس
منهج نقد المرويات الحديثية إذا خالفت المقطوع من سنة النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة
الصحابة بحُكْمِ تعايُشِهم العمَلي مع النبي صلى الله عليه وسلّم، ومشاهدتهم لأكثر مِن عَقْدين مع السُّنة الواقعيَّة التي يُطبِّقها الرسول بين أيديهم فإنهم قاموا بالتفريق بين السُّنة الواقعية التي شَاهدوها بأنفسهم، وبين السُّنة النّقلية الشَّفهية الرِّوائية، فقاموا بنَقْد السُّنة النَّقلية إذا خالَفَت ما أَلِفُوه وشاهدوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من أكبر أصول نقد المتن الروائي الحديثي، وقد غلط كثير من الدُّعَاة وطلَّاب العلم وبعضُ مَن تأثَّر برَأْي أهلِ الحديث الذين لم يُفرّقُوا بين السُّنة الواقعية التي لا يجوز إنكارها أصْلًا بنصِّ القرآن، وبين السُّنّة النقلية خاصة إذا كانت آحادًا وجَعْلها أمرًا قطعيَّة الثبوت، وكونها وحيًا من الله مع أن معظم السّنة النقلية آحاد، وكان الدَّافِعُ لي لإجراء هذه الدراسة هو لتصحيح هذا المفهوم الخطأ.!
يقول الدكتور الفقيه المفكّر طه جابر العلواني – شارحا لنا هذه الخلطة العجيبة-: “مِن الأمور التي شغَلت العقل المسلم وما تزال تَشغَلُه صِياغة العلاقة بالدِّقَّة اللازمة بين الكتاب الكريم والسُّنة النبوية المطهرة، فمع أنَّه مِن البديهي أن القرآن هو المصدر المنشيء للأحكام، وأن السُّنة هي بيانٌ له؛ بيدَ أن طبيعة العلاقة بينهما بَقِيت – على وضوحها – مثار كثير من التساؤلات…حيث نجد كثيرًا من العلماء دمجوا بين الكتاب والسُّنة وعَدَّوهما وحْيًا لا يختلف إلا في مجال الإعجاز والتعبُّد بالحروف، وبعضُهم شاع لديه ثُنائية الوحي [المنزَّلِ]، بأن يقال “الوَحيَيْنِ”، وأن التمييز يكمُن في أن القرآن وَحيٌ باللفظ، والسُّنة وحيٌ بالمعنى، وقد ترتَّب على هذه التصوُّرات مذاهبُ خطيرة منها القول بجواز نَسخ السُّنة للقرآن أو العكس، وظنَّ بعضهم أن الفوارق بينهما فوراق شكليَّة فقط تتعلق بالألفاظ وبالمرتبة، وبذلك أصبحت معاني القرآن يمكن أن ترتبط بالإطار التاريخي الذي تكوَّنت فيه السُّنة النبوية ارتباطا وثيقا”.
يضيف الدكتور العلواني:” لقد حفل تراثنا الفقهي والأصُولي والحديثي وغيره بأفكار لم تُفهَمْ جيّدًا، وشوَّشَتْ على طبيعة هذه العلاقة، منها تلك المقولة أن “السُّنة قاضِية على الكتاب وناسخة له”، وهي أقوال غير دقيقة ولا مسؤولة، إن دلَّت على شيء فإنما تدلُّ على تلك الإصابات الفكرية الخطيرة التي نجمت عن اضطراب فَهْمِ العلاقة بين الكتاب والسُّنة في تلك الأذهان…إنَّ أيَّ نوع مِن الفهم يمكن أن يُؤدّي إلى تَوهُّم نِسبيَّة القرآن الكريم وأنه ليس نصًّا مطلقا يستوعب الزمان والمكان يُعدّ فهما خطيرا لا بد مِن التنبُّه إليه واستبعاده.
فمُهمّة النُّبوَّة تَبليغُ القرآن وبيانُه وتقديم نموذج تطبيقيّ لقِيَمِه وأَحكامِه يُمكن للبشرية أن تحتذيه في كل زمان ومكان، وليستِ البشريَّة مُطالبةً بإعادة إنتاجه، وإذا تصوّرت ذلك فإنها واهمة خاطئة، وما لم تتمّ عملية تحديدٍ دقيقٍ لعلاقة الكتاب والسُّنة فإنه من الصعب جدًا تجاوُز تلك الإشكالية، وسوف يَحدثُ خلط رهيب في إطار “المرجعية”(1).
أقول: والصحابة هم أوَّل مَن انتبه لهذا الفرق الدقيق، فميَّزُوا بين السُّنة الواقعية والسُّنة النقلية.
يقول الدكتور الإدلبي: “كان الصحابي شديد التمسك بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخَذه مِن فعله مباشرة دون واسطة، إذ لا يُداني هذه الرواية أيَّة رواية أخرى في قوَّة الثبوت والتأكُّد، وقد يقع للصحابي أن يسمع من صحابي آخر حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيتوقَّف فيه حيث لا يراه مُنسجمًا مع ما فهمه مِن معاني القرآن الكريم وما سمعه هو مِن فَم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهنا إما أن يتوقَّف الصحابي في الرواية مجرّد توقُّفٍ، وإما أن يُنكرها إطلاقا حَملًا لها على سَهْو النَّاقل وخَطِئه ووَهمه”(2).
ولنأخذ من هذا المحور نماذج عديدة من هذا المنهج:
النموذج الأول: ردّ حديث “قَطْعِ المرأة والحمار والكَلْبِ للصَّلاة إذا مرُّوا بين بين المصلّي”:
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يقطع صلاة المرء المسلم المرأة والحمار والكلب الأسود”، ورواه أيضا في صحيحه من حديث أبي هريرة بلفظ: “يقطع الصَّلاةَ المرأةُ والحمار والكلب، ويَقِي ذلك مثل مؤخّرة الرحل”.
ردَّ كل مِن عمر بن الخطاب وعليّ ابن أبي طالب وعائشة وابن عباس وابن عمر وغيرهم هذا الحديث لمعارضته لما هو المقطوع من سُنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فروى ابن أبي شيبة عن سالم أن عمر قيل: له إن عبد الله بن عياش ابن أبي ربيعة يقول: يقطع الصلاة الحمارُ والكلبُ، فقال: لا يَقطع صَلاةَ المسلم شيء.
وروى أيضا عن سعيد بن المسيب عن عليّ وعثمان قالا: لا يَقطع الصلاةَ شيء، وادرَؤوهم عنكم ما استطعتم.
أما إنكار عائشة لهذا الحديث فكان أشدّ وأغلظ، لأنها روت ما شَاهدته عيانا من فِعل النبي صلى الله عليه وسلم يُعارض هذا الحديث، فروى مسلم في صحيحه عن عروة بن الزبير قال: قالت لنا عائشة: “ما يقطع الصلاة؟” فقُلنا: الحمار، والمرأة!، فقالت عائشة: “إنَّ المرأة إذًا لدابَّةُ سُوء!!، لقد رأيتُني بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلّي”.
وروى البخاري ومسلم عن مسروق، عن عائشة قال: ذُكِر عندها ما يَقْطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة، فقالت: شبَّهْتُمُونا بالحُمُر والكلاب!، واللهِ لقد رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يصلّي، وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة.
وقد غلط بعض الرواة فقلَبَ هذه الرواية، فروى أحمد في “المسند” من طريق راشد بن سعد، عن عائشة عن النبي قال: “لا يقطع صلاة المسلم شيء، إلا الحمار والكافر والكلب والمرأة”، قالت عائشة: يا رسول الله، لقد قُرِّنَّا بدَوابِّ سوء!!. قال ابن رجب في فتح الباري: “هذا منقطع؛ راشد لَمْ يسمع من عَائِشَة بغير شك، ووهم في ذلك”، أي في اللفظ.
أقول: وهنا فيه نقطة مهمة، وهي دور الوَهْم في المتن أو التلاعب فيه في مرتبة صحَّة الحديث، وسيأتي لذلك محور خاص.
يقول الدكتور مسفر الدميني: “قولُ عائشة يمكن أَخْذه على أنه الأوْلَى، فهي تحكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لمسته منه، فقد كان يصلّي وهي في قبلته، فكيف لا تقطع صلاته؟!، كما أن جَعْل المرأة في منزلة الكلب والحمار – وهو ما استنكرته السيّدة عائشة – مما يزيد الناقد شكًّا في صحة الحديث…ولعل القائلين بترجيح ما روته السيدة عائشة من الوجاهة الشيء الكثير”(3).
أما ابن عباس فردَّ هذا الحديث بالمحكَمِ مِن القرآن، وما رآهُ مِن فِعل النبي صلى الله عليه وسلم، أما ردُّه بالقرآن فرواه عبد الرزاق في “المصنف” من طريق سماك عن عكرمة قال: ذُكِر لابن عباس ما يَقطع الصلاة فقيل له: المرأة والكلب؟!، فقال ابن عباس: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فما يقطع هذا؟”.
يريد ابن عباس: هل يقطع الكلبُ والحِمَار والمرأة العمَل الصالح المرفوع إلى الله أيضا؟!!، لأن الصلاة جزء من العمل الصالح فلا يقطعها شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك من مثل ما انعقدت به.
وأما ردُّه بالسنة المقطوع بها فروى أبوداود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي الصهباء قال: كنا عند ابن عباس، فذَكَرنا ما يقطع الصلاة، فقالوا: الحمار والمرأة، فقال ابن عباس: لقد جئتُ أنا وغلام من بني عبد المطلب مُرتدفين على حمارٍ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي بالناس في أرض خلاء، فتركنا الحمار بين أيديهم ثم جئنا حتى دخلنا بين أيديهم فما بالى ذلك.
وفي رواية أخرى لابن أبي شيبة من طريق عبيد الله عن ابن عباس قال: جئتُ أنا والفَضْل على أتانٍ والنبي صلى الله عليه وسلم يُصلّي بالناس بعرفة، فمررنا على بعض الصف فنزلنا وتركناها ترتع فلم يقل لنا شيئا.
وهذا ردٌّ على صحَّة ما رُوي عن ابن عباس من طريق جابر بن زيد، عنه قال: يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض والحمار، رواه أبوداود في السُّنن، ورُوِي مرفوعا ولا يصحّ أيضا.
واعلم أن جماهير العلماء وأصحاب المذاهب الفقهية لم يأخذوا بحديث أبي ذر وأبي هريرة في الباب، بل أوّلوا القطع بنقصان الأجر لا البطلان، حتى قال أحمد بن حنبل: يقطع الصلاة الكلب الأسود، أما المرأة والحمار ففي القلب منه شيء، وهذا مشهور عنه لأنه ثبت عنده ما ينافيها، وهناك رواية أخرى عنه بقطع المرأة للصلاة، اختارها ابن تيمية وابن القيم، ونصر لها ابن حزم الظاهري والشوكاني، وهو اختيار علماء السلفية ومشائخهم في العصر الحديث، وقام بعضهم بتخطئة الصحابة المنكرين لهذا الحديث.!!
وقد بوّب البخاريُّ لحديث عائشة في الإنكار على حديث القطع بهذا الأثر فقال: “باب من قال لا يقطع الصلاة شيء” في إشارة واضحة إلى أنه تَرَك حديثَيْ أبي ذر وأبي هريرة اللذان أوردهما مسلم، وهذه المقولة رُويت عن عمر وعثمان وعليّ وحذيفة وجابر وابن عمر وأبي سعيد وكلها موجودة في مصنف ابن أبي شيبة للآثار، ولا تصحّ مرفوعا.
النموذج الثاني: ردّ حديث “الوترُ حقٌّ، فمن لم يوتر فليس منا”:
روى أبوداود وغيره عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” الوتر حقٌّ، فمن لم يُوتر فليس منا”، وروى أحمد في مسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
رَدَّ كلٌّ مِن عُبادة بن الصامت وعائشة رضي الله عنهم هذا الحديث بالمقطوع من سنَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فروى مالك في الموطأ عن ابن محيريز أن رجلا من بني كنانة يُدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد، يقول: “إن الوتر واجب”، فقال: المخدجي فرحتُ إلى عبادة بن الصامت، فاعترضتُ له وهو رائح إلى المسجد، فأخبرته بالذي قال أبو محمد، فقال عبادة: كذب أبو محمد، سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد، فمن جاء بهن، لم يضيّع منهن شيئا، استخفافا بحقهنَّ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأتِ بهن، فليس له عند الله عهد، إن شاء عذَّبه وإن شاء أدخله الجنة”.
وأبو محمد هذا رجل من الأنصار، صرَّح بذلك الطبراني في “مسند الشاميين” من طريق المخدجي قال: تنازعتُ أنا ورجل من الأنصار في الوتر، فقال أبو محمد: هو فريضة كفريضة الصلاة…فذكر القصة.
ورواه أبوداود والنسائي من طريق آخر عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن الصنابحي، قال: زعم أبو محمد أن الوتر واجب، فقال عبادة بن الصامت: كذب أبو محمد، فذكر الحديث، وكان أبو أيوب الأنصاري يقول بهذا القول أيضا رواه ابن أبي شيبة، ورواه عنه أبوداود في سننه مرفوعا ولكن النسائي صوّب وقفه.
أما ردّ عائشة على الحديث فأخرجه الطبراني في “الأوسط” عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من لم يوتر فلا صلاة له”، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: مَن سَمِع هذا من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ ما بَعُد العَهْد، وما نَسيتُ، إنما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: “من جاء بصلوات الخمس يوم القيامة، قد حافظ على وضوئها، ومواقيتها وركوعها…”، فذكرت نحو حديث عبادة بن الصامت.
وقد وافق الإمام عليّ ابن أبي طالب على هذا الردّ، فروى ابن أبي شيبة في “المصنف” عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن عليٍّ قال: الوِتر ليس بحتم كالصلاة المكتوبة، ولكنه سنة سنَّها رسول الله عليه وسلم.
يقول د. الإدلبي: “هنا تقابل عائشة – ومعها عبادة – هذه الرواية عن الوتر لا بآية قرآنية بل بحديث نبوي متفق على صحته، وهو يجعل الصلوات الخمس واجبا، ولو صحّ إيجاب الوتر لأصبحت ستّ صلوات وهو مخالف لنصّ الحديث”.
النموذج الثالث: ردّ حديث بول النبي صلى الله عليه وسلم قائما.
روى البخاري ومسلم عن حُذَيْفَةُ بن اليمان رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ انْتَهَى إلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا.
ردَّته عائشة بما شهدته من فعل النبي ﷺ فروى الترمذي عنها قالت: مَن حدَّثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تُصدِّقوه، ما كان يبول إلا قاعداً.
واختلف الصحابةُ في ذلك، فمعظم الصحابة لم يروا بأسًا في البول قائما، فروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عليٍّ وسَعْد بن عُبادة، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة، وعن ابن المسيب والشعبي وعروة البولَ قائما.
وروى أيضا عن عمر بن الخطاب قال: ما بُلتُ قائمًا منذ أسلمت، وكَره الحسن ذلك.
وعلى الرغم من أن بول الرجل في الجلوس هو الأمثل والأحسن ولكن إذا تبوّل الرجل قائما فإنه ليس بأمرٍ مستقبح منطقيًّا وصحّيًا ونظريّا بخلاف المرأة، وذلك إذا تبوّل بشكله الصحيح وهيّأ لـ”موضع التبول” من غير أن تتناثر على جسمه.
النموذج الرابع: ردُّ رواية أبي هريرة: “من أدركه الفجر جُنُبا فلا يصم”:
روى أحمد في مسنده عن همام عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا نودي للصلاة، صلاة الصبح، وأحدكم جُنُب، فلا يَصُم يومئذ”.
وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو القاري، قال: سمعت أبا هريرة يقول: لا وربِّ هذا البيت، ما أنا قلتُ: “من أصبح جنبا فلا يصوم” محمَّدٌ ورَبِّ البيت قاله.
وفي صحيح مسلم عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقصُّ يقول في قصصه: “من أدركه الفجر جنبا فلا يصم”، فذكرتُ ذلك لعبد الرحمن بن الحارث لأبيه فأنكر ذلك، فانطلق عبد الرحمن وانطلقتُ معه حتى دخلنا على عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما فسألهما عبد الرحمن عن ذلك فكلتاهما قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصبِحُ جُنبا مِن غير حلم ثم يصوم.
ثم إنه عندما وصَلت أبا هريرة روايَةُ أمّ سلمة وعائشة، تراجَع عن رواية حديثه هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأَرْجَعها إلى الفضل بن العباس، فقال أبو هريرة: سمعتُ ذلك من الفضل ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية لابن عبد البر في التمهيد: ” قال أبو هريرة: لا عِلْم لي بذلك، إنما أَخْبَرنيه مُخبر”.
وقد اضطرب أبوهريرة فيمن أخذ عنه حديثه هذا، فمرة قال: عن الفضل بن عباس، وهو المشهور، وقال الحافظ ابن حجر في “فتح الباري”: “وللنسائي … من طريق عمر بن أبي بكر عن أبيه:” أن أبا هريرة قال في هذه القصة: إنما كان أسامة بن زيد حدَّثني”، فيُحمل على أنه كان عنده عن كل منهما”، أي الفضل وأسامة.
ولهذا وُصِف أبوهريرة بالتدليس وصفه بذلك شعبة بن الحجَّاج الذي كان هو ممن بدَأ عِلم الجرح والتعديل والبحث عن أحوال الرجال منتصف القرن الثاني الهجري، فروى ابن عدي في “الكامل” ومن طريقه ابن عساكر في “تاريخه” عن يزيد بن هارون قال: سَمعتُ شُعْبَة يَقُول: أَبو هُرَيْرَةَ كَانَ يُدَلِّسُ.
قال ابن كثير في ترجمة أبي هريرة من “البداية والنهاية”: كان شعبة يشير بهذا إلى حديثه: “مَن أَصبح جُنبا فلا صيام له”، فإنه لما حُوقِق عليه قال: أخبرنيه مُخبِر، ولم أسمعه من رسول الله ﷺ.
ولكن الذهبي في “السِّيَر” قال بعد نقله هذا الكلام: “تَدليسُ الصحابة كَثير، ولا عَيب فيه، فإن تَدليسهم عن صاحبٍ أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول”.
أقول: وهذا ليس على إطلاقه، بل هو ضدّ منهج الصحابة في قبول الرواية حسب دراستنا هذه، وسيأتي تفصيل الردّ عليه في آخر المحاور في قبول خبر الواحد، ولأنَّ أباهريرة كان معروفا بالرواية عن غير الصحابة مثل كعب الأحبار، وهو من علماء مسلمي أهل الكتاب المشهورين بالروايات الإسرائيلية.
فقد روى مسلم في كتابه “التمييز” عن بسر بن سعيد وهو تابعي قال: اتَّقوا الله وتحفَّظُوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نُجالس أبا هريرة فيحدِّثُ عن رسول الله ﷺ ويحدّثنا عَن كعب الأحبار، (أي: في المجلس الواحد)، ثم يقوم، فأسمعُ بعضَ من كان معنا يجعل حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كَعبٍ، وحديثَ كَعبٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم!!.
وفي رواية لابن عساكر في تاريخ دمشق” عن بسر قال: كان يقوم فينا أبو هريرة فيقول: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول كذا كذا، سمعتُ كعبًا يقول كذا كذا، فعَمِد النَّاسُ إلى بعض ما رَوى عَن كعبٍ فجعلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فإن أهل الرأي وفقهاء العراق ما كانوا يأخذون بعامَّة أحاديث أبي هريرة، فرَوى تلامذة إبراهيم النخعي مثل مغيرة بن مقسم، ومنصور بن المعتمر، وسليمان الأعمش كلهم عن إبراهيم بن يزيد النخعي وهو من أكابر فقهاء أهل العراق من أتباع التابعين أنه كان يقول: كان أصحابُنا يَدَعُون مِن حديث أبي هريرة، وما كانوا يأخذون به، وفي رواية منصور عنه: ما كانوا يأخذون بكلِّ حديث أبي هريرة إلا ما كان مِن حديثِ صفة جنَّةٍ أو نارٍ أو حثٍّ على عمَل صَالح أو نَهيٍ عن شَرٍّ جاء القرآن به”، أخرج هذه الروايات عن هؤلاء الثلاثة عن النخعي الحافظُ ابنُ عساكر في “تاريخ دمشق” بأسانيده.
قال ابن كثير في “البداية والنهاية”: “وقد قال ما قاله إبراهيم النخعي طائفةٌ من الكُوفيّين، والجمهورُ على خلافهم”.
أقول: ومراد قول النخعي بـ”أصحابنا” فقهاء التابعين الكبار الكوفيين الذين أخذوا عن الإمام عليّ، وابن مسعود خاصة مدرسة ابن مسعود، وهو قولٌ لبعض أصحاب أبي حنيفة، صرَّح بذلك عيسى بن أبان تلميذ محمد بن الحسن الشيباني، ونقل الجصاص في “الفصول في الأصول” عنه أنه قال: يُقبَل مِن حديث أبي هريرة ما لم يردُّه القياسُ، ولم يخالفْ نَظائره من السُّنة المعروفة، إلا أن يكون شيء من ذلك قَبِله الصَّحابة والتَّابعون، ولم يَردُّوه”.
وقد نُقل عن أبي حنيفة الإمام أنه قال: “لَا أَستَجِيزُ خِلافَ الصحابة إلا أباهريرة وأنس وسمرة، لأن أباهريرة كان يروى كل ما سمع مِن غَير أن يتأمَّل في المعنى، ومن غير أن يعرف الناسخ من المنسوخ”، وهذا النصّ عن الإمام وإن كان منقولا من مصدر غير موثوق بالصّحة عنه، إلا أن الحواضن تشهد بأن هذا كان مذهب أبي حنيفة، ولكونه من علماء الكوفة.
ونقل الكشميري عن صاحب المنار من كبار الحنفية وغيره من أن حديث المصراة يرويه أبو هريرة وهو غير فقيه، ورواية غير الفقيه غير معتبرة إذا كانت خلاف القياس.
وقال السرخسي من كبار مجتهدي الأحناف في أصوله ج1 ص:341: ” ما وافق القياس من رواية أبي هريرة فهو معمول به، وما خالف القياس فإن تلقَّته الأمة بالقبول فهو معمول به، وإلا فالقياس الصحيح شرعًا مُقدَّمٌ على روايته فيما ينسد باب الرأي فيه”.
أقول: وهذه المسائل محلُّها في موضوع: (قبول خبر الواحد وقبول مطلق رواية الصحابي)،وإنما نقلنا استطرادًا، وسيأتي موقف الصحابة من ذلك إن شاء الله، ويجدر بنا في هذا المقام أن نبحث هذه المسائل بكل هُدوء وصَبْرٍ بعيدًا عن العاطفة وإلقاء التُّهَم جزافا، لأنها مسائل علمية قابلة للنقاش، مَسطُورة في بُطُون الكتب المعتمدة في التاريخ والأصول والمصادر الحديثية، نَدْرُسُها بكل هدوء وبشكل موضوعيّ، مع اختلاف وجهات النظر فيه، ولا نريد أن نَظلم أو ننتقص قَدر أحدٍ مِن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي هريرة رضي الله عنه وغيره.
ولذلك فعلى طالب العلم أو على كل باحث عندما يقرأ أو يتناول مسألة من هذه المسائل مثل حجيَّة الخبر الواحد، أو عدالة جميع الصحابة، أو تفضيل أحدهم على الآخر أو غيرها من المسائل الكلامية والأصولية أن تُطرَح وجهات النظر – كلَّ وجْهَات النظر – على سواء كما هي حتى في البداية، ولو كانت منذ عصر الصحابة، يبحث باستقصاء، حتى يتسنّى لطالب العلم أو الباحث الإحاطة بأن في المسألة أكثر من قَولٍ، وأكثر مِن وِجهة نظر، وأكثر من طريقة، وأكثر من مذهب، لكن دائماً طالب العلم يصير كالعاميِّ إذا كان يعتقد أن المسألة فيها قَولٌ واحد فقط، أو قولان فقط، فإنه يعتقد أنه ليس بعد الحق إلا الضلال.!!
هوامش:
(1) “إشكالية التعامل مع السنة” ص: 175-177.
(2) الدكتور الإدلبي، منهج نقد المتن، مرجع سابق ص: 105.
(3) “مقاييس نقد متون السنة” ص: 91.
………………
في الحلقة التالية: تكملة منهج نقد المرويات الحديثية إذا خالفت المقطوع من سنة النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة