مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
إن ظاهرة تمحيص المرويات الحديثية عن النبي صلى الله عليه وسلم بدأت مبكرا منذ عصر كبار الصحابة بعد سنوات قليلة من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن التدوين والتنقيح ونقد المتن والنَّظَر إلى الإسناد والبحث عن علل الحديث وأحوال الرجال، ووَضْع قواعد علم الرواية ثم تأصيله بعد ثلاثة قرون مضت على وفاة الرسول.
ولا شك أن خدمة أهل العلم والحديث وجهودهم في السنة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم ما بين نهاية القرن الثاني إلى القرن التاسع وما بعده أمر عظيم، وكبير الشأن، وعمل جبَّار، ولكنها ليست كاملة ومسلَّمة بها كلها مثل الرياضيات أو قواعد قطعية، فللعلماء والفقهاء والمتكلّمين في تمحيص المرويات الحديثية ومعايير قبولها وردِّها مذاهب ثلاثة معروفة: مذهب أهل الحديث، وهم المشتغلون بجمع وتدوين وتنقيح الحديث، ومذهب أهل الرأي، وهم الفقهاء خاصة فقهاء أهل العراق، المشتغلون بجمع الفقه وطُرق الاستنباط من الشريعة، ومذهب أهل الكلام وهم طوائف من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية المشتغلون بالعقائد والأصول وغيرها، وكلٌّ فعلى طريقته في القبول بالحديث.
ومِن التجنّي على المسلم اتهام كل مَن اقتنع بطريقةٍ مّا من طُرق تمحيص المرويات الحديثية بأنه ينكر السنة النبوية مِن أساسها، كما حدث بالفعل للإمام أبي حنيفة رحمه الله إمام الفقهاء ولكثير من أمثاله ومن بعدهم من بعض الباحثين والمفكّرين، فما أهونَ عليهم قذْف الاتّهام بأمر عظيم: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}، فقَبْلَ أن تتَّهم فإنه مِن اللازم أن تدرس منطلقات صاحب الفكرة وقواعده ومقصده!.
فمما لا يشكُّ فيه أيُّ مؤمن يؤمن بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا حُرمة إنكار شيء ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم يقينا، لأن السنة النبوية نوعان: واقعية ونقلية، فالأولى – أي الواقعية – هي ما يأمُره الرسول أو يفعله بالمشاهدة أو بالقَطْع بالتَّواتر ونحوه ولا يتردد أيّ ذي مسكة من إيمان في حُجّيتها ووُجوب الأَخْذ بها، فالتشكيك فيها أو ردِّها إلحاد وكفرٌ بالرسالة بلا ريب ومُوجب للخروج عن الدّين، وعلى هذا جاءت الأدلة من القرآن: مثل قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب/36)، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر/7)، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور/63)، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء/65)، وأمثالها من الآيات.
وإنما الخلاف في السُّنة النقلية أي: أنّ هذا الحديث المنقول إلينا بالشَّفاهة أو بالسَّند هل هو من كلام الرسول أم لا؟!، وما هو المنهج الذي نتّبعُه في تمحيصه؟!، وكلُّ مَن يُنزل تلك الآيات القرآنية على مَن يتثبّت ويتمحّص من الروايات فإنما يُنزل آياتِ الله في غير محلّها، ويفترى على من يقوم بذلك بإنكار السنة!، لأنك تلزم الناس بقواعد وجهود بَشرية سواء في الجمع والتنقيح والتأصيل!!.
إنني عندما رأيتُ الإهمال الذي يعانيه القرآن الكريم عند كثير من المسلمين، وتقوية مرتبة المرويات الحديثية على مرتبة القرآن ومحوريّة دلالته وحجّيته، بل تقديم أقوال بعض الأئمة في بعض الأحيان – كلُّ ذلك بغيرِ قَصد أو حسَب ما يقوله علماء النفس بطريقة اللّاوَعْي أو بطبيعة الحال على الواقع- اهتممتُ بهذا الموضوع، وبحثتُ فيه مدَّة من الزمن، وعندما توفّرت لديّ النماذج الحيَّة من قِبَل ممارسة بعض علماء ودعاة المسلمين المعاصرين خاصة من الصوماليين تجرَّأتُ على الكَشْف عن مَكْمن هذا الخَطر قبل عامين!!، وقد وصلَتِ الرسالة غير مبال بما يقوله عني الناقدون.!
إن وجود الحسّ النقدي للمرويات الحديثية بدأ مبكراً في عصر الصحابة، وشمل جانب المتن فقط إذ كان عهد الرسول قريبا جدًّا بدون وجود إسناد، ولكن لم يتم العناية بمنهج الصحابة في قبول الرواية والتعامل معها بل تم تخطئتهم في بعض الأحيان، وإنما تم التعويل على قواعد وأصول أصَّلَها عُلماء أتَوا في قرون متأخرة، فتم وضع قواعد علم الحديث، وجعلها قواعد مُسلّمة.
صحيح، أن بعض المستشرقين شوّهوا صورة نقد الصحابة للمرويات الحديثية، بحيث جعلوا الموضوع جرح عدالة صحابي لصحابي آخر، ورميه بالكذب والافتراء، وذلك للتشكيك بأصل السنة ووجودها، وهذا غير صحيح، بلى: إن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بدأ وهو حيّ لم يمت كما سيأتي في المحور الثالث، ولكن الصحابة – معظمهم – منزهون من تعمّد الكذب على رسول الله.
إن نقد الرواية الحديثية قد شغل حيّزا كبيرا من اهتمام الباحثين والمفكّرين، وهناك دراسات وافية أجريت حول هذا الموضوع، حصلتُ على جملة مصادر وافية، بل إنني منذ عامين كتبتُ حول أصل هذه المادة في منهج السيّدة عائشة الصديقة أمّ المؤمنين رضي الله عنها في نقد المرويات النبوية لكونها المشتهرة بهذا المنهج مقارنة مع باقي الصحابة، إلا أنني عندما رأيتُ تخطئتها – ومعها غيرها من الصحابة – من قِبَل البعض قديما كان أو معاصرًا، وقمتُ بمواصلة القراءة والاطلاع على هذا الموضوع بكثافة في فترات متلاحقة رأيتُ أن أوسّع ذلك كي يشمل غيرها من كبار الصحابة منهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعليّ وكبار الصحابة وفقهائهم، لكن دراستي السابقة هذه التي نُشرت من قَبْل سيتم دمجها في دراستنا هذه لكونها أصل المادّة، فتمّ إنتاج هذه الدراسة المتواضعة التي يَنقصها الكمال والتنقيح، فلله الكمال وحده، معتمدًا على مصادر أصليّة عن الصحابة، لا ينكرها أي منصف.
وقمتُ بتقسيم الدراسة إلى ست محاور سننشرها أسبوعيا تباعا:
1- أسباب عدم تدوين الحديث النبوي مثل القرآن.
2- أسباب تقليل معظم الصحابة لرواية الحديث ومَنْع بعضهم إياها.
3- منهج عرض المرويات الحديثية على القرآن وردّها إذا خالفته عند الصحابة.
4- منهج نقد المرويات الحديثية إذا خالفت المقطوع من سنة النبي صلى الله عليه وسلم عند الصحابة.
5- منهج نقد المرويات الحديثية إذا خالفت القياس الصحيح والعقل الحصيف عند الصحابة.
6- قبول الخبر الواحد أو إذا انفرد به شخص وخالفت روايته الأصول عند الصحابة.
7- عدالة الصحابي في نقله لا يعني أنه يضبط لفظ الحديث كما هو عند الصحابة (نماذج من نقد بعض الصحابة على أوهامٍ وقعت في ألفاظ الأحاديث).