في اواخر الثمانينات من القرن المنصرم كنت شابا يافعا يحضر دروس بعض الكتب في حلقات مساجد بلدوين كبرى مدن منطفة هيران وحاضرتها، وكان ذلك في أوج انتشار الدعوة الوهابية في الصومال. ولما وصل دعاة المدهب الى بلدوين، وبدأوا في استقطاب الشباب للدعوة الجديدة التي كانت ترفع شعار تصحيح العقائد ومحاربة الشعوذة والخرافات، كنت قد تأثرت بعض التأثر فيما كان يناديه الدعاة الجدد من اتباع السلف والرجوع الى المنبع الاول، وترك كل ما عدا ذلك من التزيد في الدين، والابتداع واتباع أقوال الخلف المخالفة لفهوم السلف. والناس مولعون دايما بالجديد لجدته، ولو لم يكن في هذا الجديد أصالة راي وفهم ثاقب.
ومما علق بذاكرتي من ذكريات تلك الايام الخوالي، انني ذهبت يوما من ايّام الجمعة الى (مسجد العرب) في بلدوين او المسجد الصغير -كما كنّا نسميه- ولم يسمّ ذلك لصغره، وانما على سبيل المقارنة مع المسجد الكبير في المدينة، والمسجد الصغير ثاني اثنين من ناحية العظمة والاتساع، ولكنه كان الاول في الحسن والجمال والأناقة والاعتناء، وان كان لا يبلغ مبلغ الكبير من حيث العراقة والجلال والهيبة، وكنت احب الصلاة في الصغير لجماله، والذهاب الى الكبير لحضور الدروس الكثيرة التي كان يلقيها علماء تقليديون كبار، على غرار “الصلاة مع عليّ أفضل والأكل عند معاوية أدسم”وقد كان المسجد الكبير مثابة يجتمع فيها طلاب العلم، ينهلون ما يلقى فيه من الفنون المختلفة في العلم من نحو وصرف وفقه وتفسير وعلوم حديث، فانتفع بها من اراد الله به النفع، واخفق من جرفه سيل التيارات الاسلامية الحديثة التي اصابها الكبر والتضخم والانتفاخ، مستسهلة في التدرج في سلم العلوم، مستخفة بالعلوم العربية من لغة ونحو وصرف وبلاغة، مختصرة الطريق من خلال القفز الى دراسة امهات الكتب والاصول رأسا، مدّعية ان الانشغال بعلوم الآلة اضاعة للوقت وتبذير للجهد، بل ان بعضهم عدّها من البدع الحديثة في الدين ! فكان ما كان من سوء الحصاد والبوار، ولم تظهر العواقب الوخيمة لذلك الا بعد عقود مريرة من التخبط والتيه، ومن استعحل الشيي عوقب بحرمانه.
وما لنا ولهذا، فان الاستطراد آفة من ابتلي بحرفة الكتابة، وربما تكون هذه الآفة عدوى انتقلت إلينا من شيخنا الجاحظ برّد الله مضجعه ونوّر ضريحه، فقد كنت اريد ان اتحدث عن ذكرى واحدة من ذكريات تلك الايام، ولكن القلم قد طغى واسترسل في أحداث اخرى لم نرد خوضها الان. نعود الى ما كنا قد قصدناه من ذكرى يوم الجمعة الذي ذهبت فيه إلى المسجد الصغير لآداء صلاة الجمعة، فاخذت مصحفا من المصاحف، فتحته ثم بسطته على بساط المسجد أقرؤه، وكان على جانبي الأيمن الشيخ إسماعيل يقرأ القران، فنهرني وامرني ان ارفع المصحف من بساط المسجد، فقلت له: لا باس من ذلك يا شيخ ! وليس عليّ من حرج اذا وضعت المصحف علي سجادة المسجد ! وهل عندك دليل من الكتاب والسنة على منع ذلك؟ فلما راي الشيخ إصراري واستهتاري بأقواله واستخفافي بأمره سكت ولم يقل شييا، ولا شك انه كان يعرف ان الارض غير الارض، والشباب غير الشباب، والثورة على القديم ورموزه جارية على قدم وساق، فآثر السلامة من الفتن. والشيخ اسماعيل يعرفه من يعرفه من أهالي بلدوين، كان شيخا مهيب الطلعة، حسن الصورة، قليل الكلام، عالما بالأحاديث، وكان يجلس في المسجد الكبير لقراءة الصحيحين، وانا آنذاك مراهق ما بقل وجهي ولا طرّ شاربي. فلما قضيت الصلاة، وانتشر الناس في الارض، وخرجت من المسحد، أخبرت بعض الأصحاب ما وقع بيني وبين الشيخ على سبيل التباهي والافتخار، وكان الشيخ يعدّ من الجيل القديم، فقالوا لي: لقد احسنت صنعا، فهذا الشيخ من الخرافيين الذين يجب مواجهتهم، فطرت فرحا بقولهم وازددت اطمينانا بصواب تصرفي.
وتمر الايام وتكرّ الليالي وتنقضي السنون، فاذا انا كلما اذكر هذه الواقعة وددت لو ان الارض ابتلعتني او خسفت بي الارض وكنت نسيا منسيا، وأقول في نفسي: يا ويلتا أعجزت ان احترم شيبته وسنه، اذ لم احترم علمه وفضله ! لعن الله غرارة الشباب فانها نصف البلاهة مع ما يصاحبها من العناد والغطرسة، فاذا انضاف اليها حب الجديد والثورة على القديم، فقد تنقلب الى لهيب نار مشتعلة لا تبقي ولا يذر، وينزلق المحتمع الى اتون من الفتن والعداء والكراهية والحقد، فتنعدم الموازين، وتختل المعايير، فليس هناك فاضل يحترم لفضله، ولا عالم يعظم لعلمه، وانما الناس كلهم على درجة سواء، فهم رجال ونحن رجال، وان كانت رجولة كثير منا لا تتعدى الفحولة. ولا ادري ان كان الشيخ اسماعيل على فيد الحياة، فربما قد نسي هذه الواقعة ولم يلق لها بالا، ولكنني لا ازال أتجرع انا بسببها الالم الممضّ والعذاب المضني، وهذا الالم والعذاب يزدادان كلما مرت السنون، ولو انني رايته لقبلت يديه، واعتذرت له على ما بدر مني.