لقيتها صدفة … هل أنا أعشق الصدف أم قدري محتوم أن انتبه للمفاجئات ….لا أدري !!
ولكن معظم أوقات لقائاتي مع الأشخاص المتميزين يحدث بلمح البصر! .
لنستمر حكايتنا .!
هكذا كالعادة .. مساء الجمعة في زيارة موجزة … زيارتي المعتادة .. لا أوصف لها معني ويعجز قلمي عن تعبير حتي وإن حاول قلبي أن يستجمع قواه خيالية ؛ تجلس أمام حوش بيتها الصغير ، لكن مبناه يحمل كل دكريات …. مرها وحلوها .. عاش وتربي فيها جيل لا أستطيع أن أصف تلك سطور ! تحمل مسبحة طويلة سألتها إحدي زياراتي كم عددها فقالت : كانت ثلاث مائة لكن إحدي حفيداتها أهدتها خمس مائة المسبحة لا تفارق يديها جميلتين … تراهم أنهم تعبوا وبمجرد تنظر اليهما يمر أمام عينك شريط حياتها كاملا ؛ وكيف لا ، وفي كل عرق من عروقها البارزة يحمل حكاية بحد داته ، يحمل حقبة تاريخية لم تسجل بعد ، تظهر عليه آثار الوفاء ، ولإخلاص والتضحية والصبر ، سمرة بشرتها وطهارة قلبها تشهد انها علي بقايا جيل علي وشك الإنقراض ، لا أبالغ ……. لكن نطرة علي وجهها تغنيك الف كلمة ، في طرف عينها خطوط لا تعد ولا تحصي ، فما بين جبهة والجفون سطور منسية تقرأها آلاف شهور ، ولا تشبع منها كطفل يأبي الإنفضام عن الرضع .! في كفيها بركة ورحمة ، وقبلة علي جبينها لا تساوي الدنيا وما فيها ّ
صوتها يلامس قلبك وتحسه من عمقك، وكيف لا تحسه وهو لا يزال يلاعب مشاعرك حتي الموت لأنه أعذب من أي صوت تسمعه..
مما يؤثر حبال السمع التكرار المتكرر … هذا ما جعل صوتها ينقش علي المسامع والنفوس بكثرة حكاياتها المثيرة التي كنا نتسابق في لليالي عديدة دون ملل او كلّ . ومن يمل حديث الجدات !! لأنه أعذب من حديث الأمهات الذي معظمه الأوامر والنهي المتكرر ، الأمهات دائما مشغولات ، أما الجدات عندهن وقت والإجتماع حولهن راحة نفسية ، وحكاياتهن مشوَقة ، وتغفو وأنت تستمع لهن …!
تلك جنتي أسمهيا أمي ، أحبها أكثر من أمي ! ومن منا لا يحب في كينونة نفسه الي جدته الحنونة . لأن طهرها كان لك ولي وزراة الأمان والدفاع بنفس الوقت من قصف كلمات الأمهات .. والضرب والتهديد .. كل أنواع عمليات الفر والكر… .
كبرت وكبرت وزارتي معي … واستمرت حكاياتها تكبر علي مستواي العقلي والمعرفي ، أتعجب! جدتي لم تتعلم ولم تحضر خلوة ، ولا مدرسة ، ولا أكسفورد ، بل تتقن في فنون كثيرة خاصة في فن العلاقات ..
طبعها هادئ ، ابتسامتها العريضة تعني الكثير ، مشيتها مشية استحياء رغم كبر سنها ، حيائها وخفض صوتها مثل عدراء في قعر حجرها لم تعر ف رجال بعد … ولم لا وقد عاشت زمن الحياء والحشمة .
علاقاتها مع الجميع طيبة ….. تسأل الغائب ، وتزور المريض ، وتعرف حال القريب والبعيد من أولادها وجارها .. تستغفر وتحاول إملاء وقتها علي تعويض ما فات من العلم والمعرفة … بزمنها ما كانت الحياة سهلة كاليوم ، كانت شاقة ، حياة رعوية ، كل مهام البيت كانت عليها من إنجاب ، وتنظيف ، وترتيب وتربية ، ورعاية الأموال ، ورعاية زوج والعيال ……………………!
أحيانا في صغري كنت أسمع وهي توبخ زوجات أعمامي وأخوالي وتقول: هن بنات دلع ولا يقدرن قيمة الوقت الدين يعيشون فيه لو يعرفن ماعشناه من طروف لأصبحن ربات منازل أحسن !
فيجاكرونها بمثل الشعبي الشهير: <لن تري بحياتك عجوزة كانت مهملة ولا عجوز كان جبانا >فيضحكن فتضحك جدتي معهن وتقول لا عليكن أنتن تربيتم هكذا فستحيوا يا بناتي.
روحها مرحة سمحة تعامل كنّاتها مثل بناتها وأعز ، تروي لهن قصص زوجات ناحجات ، ليتعلمن ويكونّن أذوو المسؤلية. !
عاشت في مجتمع رعوي بدوي الأصل كثير ترحال ، مجتمع ذكوري لا يعرف ما يسمونه اليوم حقوق المرأة مجتمع يؤمن <البنت إما في بيتها أو في القبر >.
السلطة بيد رجل ، القرارات المصيرية بيد رجل ليس لها دور في رأي الأسرة ورغم أنها كانت عمدة الأسرة ومحور حياة الأسرية .
كأس شاه مع جدتي يقتصر مشوار اربع سنوات في الجامعات ، خبرتها بالحياة لا تكفيك دورات في فن الإدراة الأٍسرة ، ملامحها توحي لك أنها لا تعرف أو تنكر ما نسميه الحب اليوم … علي نطاق مزح قالت مره لإحدي حفيداتها: ” حب مزيف ” فعجبت تعليقها وشذّ إنتباهي ! كلمتان لكن معانيها قوية ّ!
كانت حفيدتها تعيش بحياتها الخاصة مع زوجها وطفليها ، إمرأة ثلاثينية جميلة الملامح معروفة بحسن تربية وأنها من عائلة مرموقة ـ، لأن جدتها تلك المرأة التي وصفناها .. فكيف تكون حفيدتها ّ!.
طبعا …….. لا تحتاج الي وصف لكن بإختصار نقول : صراع جيلين جيل جدتي الدي نعتبره من حيث الحكمة والذوق والعادات والتقاليد جيل الذهبي … ، في معظم الأوقات يحدث سوء تفاهم بين جيلين . الجيل الأول يري نفسه أنضج ما يسمونه جيل (عنجيرو) والشيوخ لا يعتبرون كلام الشباب بشكل جدي .
يستهزؤن بكل جديد من قبل الشباب ، أما جيلنا جيل تكنولوجيا والعولمة وبالأحري جيل سرعة في رأي آخر عن جيل الأول الذي يعتبرونه جيل البدائي غير المتعلم فيصبح النقاش علئي وشك الإنتهاء ، ويا ليت يعلمون أن التقدم في حكمة الشيوخ وقوة الشباب ، لكن هيهات … هيهات.!
المهم حفيدة جدتي كانت مختلفة تماما .. فهي بروحها المعاصرة تحب بالكبار وحكمتهم كانت تلجأ دائما عند حدوث المشاكل بحياتها…
تنجدب قوة شخصية جدتها ، ومغرمة بحكمتها ، رغم أنها تؤمن من صميم قلبها أن الإختلاف ما هو الا تبادل تجارب الخبرات وبهذه العقلية تبحث الحلول عند الجدة .
جدتي عاشت قصة حب من نوع آخر مع المرحوم جدي ، قصة حب فريدة من حيث عدرية المشاعر والصدق تعبير ، كان لقاء الأول عبارة عن التعارف والبقية كانت قصة حب تروي لها أحفادها وعيونها تلمع وفي نهاية الحكاية تلملم ثيابها وعيونها تدمع ، فيؤلمني قلبي وأتسأل دوما ما سر هذا الوفاء والحب .
فأعود للأسبوع ثاني وأقضي باقي يومي قرب جدتي وأخذمها لعلها تكافئني إخبار سر حبها ، وتنتهي اليوم أو يقاطعنا زائر غير مرغوب فأتأفف وأعود منكسرة البال ، وأحيانا أحادث نفسي لو تمضي عجلة الزمن وأكبر بسرعة لكي احطي بسرها …، فأجيب علي نفسي لربما لو كنت متزوجه لكانت فرصة الإجابة أكثر.
اما تلك المساء فريدة من نوعها ، بجوها ساحر الممطر ، رائحة الشاي جدتي تفوح كل ركن من أركان زوايا البيت لأن خلطة شاي جدتي سحر بحد داته لا تستطيع ايقاف شربه لأنه سر من أسرار دلع المرحوم وكان يحبه ومما يزيد طعم الشاي حلاوة قعدتك مع الحجة .
لقاء المميزين بدأ لتو … حفيدة جدتي أتت كعادتها لتأخد دروس جدتي ولكن مما يزيد لقاء بهجة كان صدفة أن نجتمع معا في بيت الجدة لكن مطالب مختلفة ، أنا أبحث سر جدتي وأختي تطلب نصائحها الزوجية المعتادة ، فهي لم تعاني مشكال كثيرة في حياتها الزوجية ، فزوج أختي رجال آدمي وابن الناس متعلم مثقف متفاهمان هو وأختي ويعيشان بعش زوجي سعيد ، ومختلفان عن بقية أقرانهم المتزوجين الجدد ، لكن الحياة لا تخلو المشاكل وسوء التفاهم احيانا لكن اختي فتاة واعية ومنفتحة ومثقفة بنفس الوقت لدي هي تطلب النصائح من هم أهلها مثل جدتي ، أما أنا ما زلت أبحث سر حب جدتي ، أم اليوم بدأت شكاوي أختي أمامي وأنا وجدتي نستمع بكل جدية ـ وبعدما خلصت ، أبتسمت الجدة ابتسامة كلها وقار وحكمة ، فانبهرت بردة فعلها الباردة !
قالت : كلمة واحدة ” لا تجعليه محور حياتك”….!!!
وانصرفت بهدوء تام كعادتها والتفت لأختي وهي لم تفهم كلمة وبدت عليها أثر التعجب ولإنبهار ، أما أنا ما زلت أحاول استيعاب الجملة ، وشددت رحالي لأجد لها معانيها الحقيقة ربما هي سر التي أبحث ـ وللحديث بقية ، ولغز جدتي منعني نوم !!!.