أحياءٌ في الذاكرة…
ليس من السهل أن تمضي الأيام وتترك وراءها وجوهًا سكنت القلب، وأسماءً التصقت بالذاكرة، وصورًا لا تغيب مهما تعاقبت السنون.
هناك ثلاثة أشخاص، ليسوا من عائلتي، لكنهم ظلّوا في داخلي أحياءً لا يموتون، مهما ابتعدت أجسادهم، وكلّما مرّ طيفهم بخاطري همست لنفسي: “بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون.”
رحلوا فجأة دون وداعٍ ولا موعدٍ مُسبق، كأنّ القدر استعجل لقاءهم بربهم الكريم! ومع أني أؤمن بالقضاء والقدر، إلا أنّ وقع فراقهم ترك في قلبي صدى لا يهدأ، وجرحًا لا يُنسى. كانوا قريبين جدًا… أقرب مما يتصوّر أحد، وأصدق مما يُكتب بالحروف.
أولهم أستاذي الصغير، المربّي معلم مهد، الذي لم يتجاوز الأربعين من عمره. كان رجلًا هادئًا، يحمل في ملامحه وقار العلم، وفي قلبه رحمة المربّي.
رحل فجأة في مقديشو بعد عودته من هرجيسا، وكأنّ الدنيا استعارته للحظاتٍ فقط، ثم عادت به إلى خالقه! ما زلت أذكر كلماته، وابتسامته، وحرصه على طلابه كأنهم أبناؤه. لم يكن مجرد معلمٍ، بل كان نبراسًا يُضيء الطريق، ورحيله ترك فراغًا لا يُملأ. ما زال في ذاكرتي رغم مرور سنواتٍ على وفاته، وكأنّ رحيله كان بالأمس.
وثانيهم معاد (سَراح)، صديقي الذي لا أنسى ضحكاته الجميلة ولا مكانه الثابت في المسجد. كان شابًا نبيلاً، يحمل في قلبه صفاءً نادرًا، وفي روحه حبًّا للخير والناس.
كان من ركّاب الطائرة الإثيوبية التي سقطت فجأة، لكنّ روحه لم تسقط، بل ظلّت تحلّق في سماء الدعاء والذكرى. كان مبتسمًا دائمًا، خفيف الروح، كأنّ الدنيا لا تُثقله! ترك فينا درسًا بليغًا: أن الرحيل قد يأتي في لحظة، وأنّ الاستعداد له لا يكون بطول العمر، بل بحسن العمل.
أما الثالث فهو سمتر… ذلك الفتى الذي كتبتُ عنه اليوم، الفتى الذي سبق عمره، وجعل من طفولته رجولة، ومن شبابه إيمانًا. لم يكن مجرد طفلٍ عرفناه، بل كان روحًا ملائكية تمشي بيننا! رحل وهو يحمل في صدره قلبًا طاهرًا، ولسانًا يلهج بالقرآن، وعقلًا أرجح من سنّه! كلما تذكّرته شعرت أنّ الأرض فقدت زهرةً، لكنّ الجنة فازت بها.
وما يُخفّف حزني على هؤلاء الأحبّة، هو يقيني بأنّ اللقاء لم ينتهِ، بل تأجّل إلى دار الكرامة، حيث لا فراق ولا حزن، وهناك، يتقابل المؤمنون، ويتحدثون عن ماضيهم الجميل، وعن لحظاتهم التي جمعتهم في الدنيا، فيبتسمون كما كانوا يفعلون”وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ”
اللهم اجعل قبورهم روضةً من رياض الجنة، ونوّر مضاجعهم، واملأها برحمتك ورضوانك، واجمعني بهم في مستقرّ رحمتك، في دارٍ لا فراق فيها ولا دموع، بل فيها النور والسرور، والخلود في جوارك يا أرحم الراحمين.
















