*الشاعرة ” مُلاحُ” وزميلتها!*
كنت في صغري أصغي إلى حديث الكبار وهم يتجاذبون أطراف القصص، ويتناولون أنواع الأحداث الغريبة، ويتذكرون الأخبار السيارة، فكان مما راع انتباهي، واحتجز في ذاكرتي موضعا لا ينمحي أثره، ولا يزال خياله ماثلا فيها، قصة “مُلاحَ” وإجبارها على الزواج بدون رضاها، وما أنشدت في ذلك من الأشعار المبكية، وما أراقت به من الدموع الساخنة، وما لاقت من أقاربها من الشتام اللاذعة حينما رفضت سلب حقوقها وإجبارها على العيش مع زوج لا ترغب فيه، ولا تحب أن تكون له حليلة .
ومما زاد لبؤسها بؤسا، وآلامها إيلاما أنها لم تجد نجدة من صديقتها ” مريم الشاعرة” فبدل أن تمد لها يد العون بشعرها، وتذب عن حياضها بقصائدها، صارت خنجرة في خاصرتها، وطاعنة في شخصيتها، وعاضة بأنياب شعرها، ومنحازة إلى خصومها، ومنضمة إلى صفوف أعدائها، منشدة ألحانها لعتابها، مرغمة بشعرها كبريائها..
ومع هذا لم تستسلم ” ملاح” لواقعها، ولم ترفع راية بيضاء لخضوعها؛ ولكنها ثارت كرياح عاصفة، وزمجرت بالشعر كلبوة هائجة، وجردت سيف الدفاع عن غمده، وأسمعت أقاربها من الأشعار ما يشبه ” ملحمة شعرية” وصفت فيه أحولها وميولها، ورفضت فيه تركيعها وإجبارها، وعابت فيه زوجها ووليها..
وأما أنا فأقتبس من شعرها، وأنسج على منوالها، وأقارب من مغزاها، وأقيد من شواردها، وأصف شيئا من أحوالها، وأتعرض لذكر بعض أشعار زميلتها، وأنشد لغة ليست من لهجتها؛ رغبة لإخلاد الأحداث القديمة، والآثار العتيقة، وفتحا نافذة لأهل الأدب ممن يريدون السير على الجادة، والتقصي تلك الأطلال الدارسة، وإبراز الرسوم البالية على أطراف الطريق؛ ليلحق الجديد بالقديم، والفرع بالأصل، فمن لا أصل له لا فرع له
قلت على لسانها :
لَاحَتْ كشمسٍ صَفَا مُلاحُ
حُضُورُها مُوقِدٌ مُرَاحُ
غِيَابُهَا لَيلةً أليم
وَطَلعُهَا فَجأَةً فَلَاحُ
يَرنُو عُزَابٌ إلى الفَضَاءِ
قَمْرَاءُ فِي لَيلِهَا صَدَاحُ
نَشِيدُهَا يَسحَرُ القُلُوبَ
بِصَوتِها يَطرُبُ الفَلَاحُ
وَفِي حَرَاطِيرَ عَن حِكَايَا
تِهَا حَنِينُ بِهَا مُلَاح
لِلَحنِهَا دَائِمًا رَوَاجٌ
طُيُوبُهَا فِي الهَوَى فَوَاحُ
وَأَمرُهَا رَابِ وَالِدَيهَا
وَخَوفُ عَارٍ هُوَ السِّلاحُ
وَكَيفَ يَرضَى عَنِ الغِنَاءِ
أبٌ وَعَن فِتيَةٍ وِقاحُ
صَارَت بِلَا عِلمِهَا مُلَاحُ
زَوجًا لِشَيخٍ خَطَى النِّكاحُ
هَاجَت وَمَا عِندَهَا نَصِيرٌ
أحلَامُهَا كُلُّهَا رِيَاحُ
فَأبرَدَت حَرّهَا بِدَمعٍ
تَرَى عَلَى خَدِّهَا سَفَاحُ
وَثَمّ عَضّت شَفًا َوقَالَت
عَمَاكَ رَبِّي هُوَ الفَتَاحُ
مَالِي وَشَيخٍ فَنِيْ وَمِثلِي
يَهوِي فَتًى ذَاكَ لِيْ مُرَاحُ
وَكَانَ شَرخُ الشَّبَابِ حُلمِي
فَاغتَالَنِي مَن هُوَ السَّمَاحُ
وَمَوئِدِي وَالدِي الحَلِيمُ
جِمسِي لَقَد نَهَشَتْ رِمَاحُ
وللحديث تكملة إن شاء الله تعالى
#يوسف أحمد محمد