الشيعة في اللغة مأخوذة من المشايعة بمعنى المتابعة والمناصرة والمولاة، وهي في الأصل: الجماعة المتعاونون على أمر واحد، يقال: تشايع القوم إذا تعاونوا، ومنه قوله تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم) ومنه أيضاً:(فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه).
قال الأزهري: «والشيعة أنصار الرجل وأتباعه، وكل قوم اجتمعوا على أمرهم شيعةٌ، والجماعةُ شِيَعٌ، وأشياع»([1]).
وقد غلب هذا الاسم على أتباع علي بن أبي طالب t حتى اختص بهم دون غيرهم حتى إذا أُطلق لا ينصرف إلا إليهم.
ولهذا فالشيعة اصطلاحاً: من شايع علياً، وقدَّمه في الفضل على جميع الصحابة، واعتقد أنه الإمام بوصية من رسول الله نصاً كما تراه الإمامية، أو وصفاً كما ترى الجارودية.
قال الشهرساتاني: «الشيعة هم الذين شايعوا علياً t على الخصوص، وقالوا بإمامته، وخلافته نصاً ووصيةً، إما جلياً، وإما خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت، فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده، ويجمعهم القول بوجوب التعيين، والتنصيص»([2]).
ثم تطور التشيع من مجرد تقديمهم علي بن أبي طالب t على غيره من بقية الصحابة في الخلافة إلى سب أبي بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان بحجة أنهم غصبوا الإمارة من علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
قال ابن حجر العسقلاني: «والتشيع محبة علي، وتقديمُه على الصحابة، فمن قدَّمه على أبي بكر وعمر، فهو غالٍ في تشيعه، ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السبُّ والتصريحً بالبغض، فغالٍ في الرفض، وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا، فأشد في الغلو»([3]).
ثم تطور التشيع من السب والبغض إلى تكفير معظم الصحابة، وهو الذي عليه اليوم غالبية الشيعة ـ نسأل الله السلامة ـ.قال الزبيدي: « وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولَّى علياً، وأهلَ بيته، وهم أمة مبتدعة، وغلاتهم الإمامية المُنتظِرة يسبُّون الشيخين (أبابكر وعمر) وغلاة غلاتهم يُكفِّرون الشيخين، ومنهم من يرتقي إلى الزندقة»([4]).
نشأة التشيع
اتفق الجميع قديماً وحديثاً على أن التشيع أمر طارئ، وغريب على الإسلام وأهله، وأنه بدعة في الدين، ولم يوجد في عصر الرسول، ولا في عهد أبي بكر، وعمر، ولا في عهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وإنما ابتدأ ظهور التشيع بعد مقتل عثمان بن عفان، وحينها انقسم المسلمون إلى فرقتين، فكانت الفرقة التي مع علي بن أبي طالب t تطلق عليها شيعة عليٍّ بن أبي طاب، وكان ذلك مجرد الميل إلى علي t في أحقيته للخلافة، ولم يكن من بين الصحابة من هو أحق بالخلافة من علي بن أبي طالبt بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ثم ظهر اسم التشيع ظهوراً جلياً اسماً على فرقة من الفرق حينما قبل علي بن أبي طالب t التحكيمَ بينه وبين معاوية بن أبي سفيان، فخرجت جماعةٌ من الخوارج من جيش علي بن أبي طالب معترضة عليه في قبوله التحكيم قائلة له، أنت حكَّمت الرجال، ولم تُحكِّم شرع الله، ثم قالوا: لا حكم إلا لله. فخرجوا من جيشه، وعزموا على مقاتلته إلى آخر القصة، فنشأت جماعةٌ أخرى في مقابل ذلك توالي علياً، وتتعصَّب له، فسميت لأجل ذلك الشيعة، فالشيعة إذن نشأتْ كردِّ فعلٍ للخوارج، فلولا الخوارج لما وُجدت الشيعة، وقد صدق من قال: إن التطرف يُولِّد تطرفاً.
الأحداث التي وقعت لعلي بن أبي طالب من بداية خلافته إلى مقتله
أهم شخصية لدى الشيعة عموماً والإمامية خصوصاً هي شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t لأن التشيع ابتدأ من أجله، واستمر معه في أولاده، وبما أن خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرتبطة بمقتل الخليفة الراشد: عثمان بن عفان رضي الله عنهما، لأنه بعد مقتله بُويع علي بن أبي طالب بالخلافة.
سبب مقتل عثمان بن عفان t
كان قد تقدَّم العُمرُ بعثمان بن عثمان، بحيث تجاوز الثمانين سنة، فضعُف جسدُه، واستغل ذلك كثيرٌ من المُغرضين، وأصحاب الفتن في إثارة إشاعات حوله في تولية أقربائه على مناصب عليا في الدولة مع أن كثيراً منهم كان قد ولَّاهم عمر بن الخطاب على تلك المناصب، ولم يزالوا يرددون تلك الإشاعات لقصد شحن نفوس الناس بها من أجل إعطاء صورة سيئة عن الخليفة الراشد عثمان بن عفان t وأقاربه.
بعد تفكير طويل رأى أصحابُ الفتن أن الوقت قد حان للقيام بشيء تجاه عثمان بن عفان t، فمن أجله تراسلتْ مجموعاتٌ من الجيش في مصر، والكوفة، والبصرة للرجوع إلى المدينة على حين غَفلة من الناس لقتل عثمان بن عفان مستغلين الفراغ الذي كان بالمدينة المنورة آنذاك، فجيش المسلمين كان بعضه يقاتل في الثغور والحدود، ومعظمُه موزَّع على الحواضر الإسلامية الكثيرة، وكثيرٌ ممن كان بالمدينة من الصحابة وأولادهم ذهبوا للحج، لأن قتل عثمان بن عفانt كان ثالث أيام التشريق من ذي الحجة، فلم يكن بالمدينة إلا قلة من الصحابة.
فانتهزت المجموعات تلك الفرصة، ودخلت إلى المدينة المنورة في وقت واحد، وحاصرتْ بيتَ عثمان بن عفان من كل الجهات، ولم يكن بالمدينة من الصحابة من يستطيع الدفاع عنه، ومع ذلك وقفت قلةٌ قليلة من أهل المدينة في وجه هؤلاء حُراساً على الباب الرئيسي لبيت عثمان بن عفان إلا أن تلك المجموعات دخلت الدار من الخلف مُتسلِّقة على الجدران، وأحاطت بعثمان بن عفان، وحاول خدمُه ومَن كان معه في البيت أن يقاتلوهم، فمنعهم عثمان بنُ عفان مِن مقاتلتهم لأن عددهم قليل، ولا يستطيعون فعل شيء أمام تلك الأعداد الكثيرة التي قُدِّرت بمئات، ولأن عثمان بن عفان منعهم من قتالهم لأنه ما أحب أن يُراق دم مسلم بسببه، فأحب أن يُقتل شهيداً مظلوماً، وكان t على عِلم بذلك، فقد أخبره النبي r بأنه سيقتل شهيداً.
واتفقت الروايات أن الخليفة عثمان بن عفان t قُتل، وهو في داره، والمصحفُ بين يديه يقرأ منه، فلما ضربوه على رأسه سالت دماؤه على المصحف الشريف، ولك أن تتخيل هذا المنظر في قتله لندرك أنه أبشع صور القتل، وأقبحها لخليفة راشد بقي أميراً على المؤمنين لأكثر من اثنتي عشرة سنة لم يظلم أحداً، ولم يقتل أحداً من الرعية.
وتلك الإشاعات التي أثيرت حوله حاكَها أناس أرادوا بها تقويض وحدة الأمة، وحتى لو فرضنا جدلاً أن تلك الإشاعات صحيحة لما كانت تقتضي قتله بحال من الأحوال، بل ولا الخروج عليه، فغاية ما في الأمر أنه يكون بذلك قد ولَّى المفضول مع وجود الفاضل، وهذا جائز باتفاق العلماء، وقد فعله مَن قبله من الخلفاء الراشدين، بل إن النبي r بعث بعثاً، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد، وفيهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من كبار المهاجرين والأنصار، فلما طَعن بعضُ الناس في إمارته قام رسول الله r فقال: «إن تطعنوا في إِمارَتِه، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبلُ، وايم الله إن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس مِن بعده»([5]).
وفي الختام أجمع المسلمون على أن عثمان بن عفان قُتل مظلوماً، ومات شهيداً، وقد كان النبي r بشَّره بالشهادة في حال حياته، وكانت خلافته محل إجماع بين المسلمين لم يتخلف عن بيعته أحدٌ.
مبايعة علي بن أبي طالب بالخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان
كان علي بن أبي طالب t من القلة الذين كانوا بالمدينة المنورة وقت مقتل عثمان بن عفان، ولم يستطع أن يفعل شيئاً تجاه القتلة الذي كان عددهم يقدر بمئات، وقد أرسل ابنيه: الحسن والحسين كما قيل إلى دار عثمان بن عفان للدفاع عنه، فبعد مقتله طَلب منه مَن كان بالمدينة من المهاجرين والأنصار أن يبايعوه، فرفض عليٌّ بن أبي طالب ذلك في أول الأمر لأن الحدث جلل يتطلب تريثاً وإجماعاً، ثم ألحوا عليه، إذ لم يكن هناك من هو أولى بالإمارة منه، ولأنه لا يصلح أن تبقى الأمة من دون رأس، فقَبِلها علي بن أبي طالب بعد ذلك، فبايعه مَن كان بالمدينة المنورة من المهاجرين والأنصار، ثم طلب علي بن أبي طالب من المسلمين في المدن الأخرى أن يبايعوه كما بايعه أهل المدينة ليتفرغ بعد ذلك للقصاص من قتلة عثمان بن عفان t.
فكان طلحةُ بن عبيد الله، والزبيرُ بن العوام مع موافقتهما على إمارة علي بن أبي طالب t إلا أنهما كانا يريان أنه لا بد من الاقتصاص من قتلة عثمان بن عفان فوراً حتى لا يختفي أثر هؤلاء، ويضيع دم الخليفة الراشد، فاجتمعوا ومن كان على رأيهما بالبصرة، وانضمت إليهما عائشة لا حقاً لأنها كانت في الحج، وشرع جيشُهم في قتل قتلة عثمان بن عفان في البصرة وما حولها، فكتب عثمان بن حنيف الأنصاري، وكان والياً على البصرة من طرف علي بن أبي طالب إلى علي بن أبي طالب t في ذلك، فخرج علي بن أبي طالب إلى العراق بجيشه الذي كان معه من المدينة.
إذ لم يكن لعلي بن أبي طالب بُدٌّ من إدخال هؤلاء في بيعته طوعاً أو كرهاً إذ لا يجوز شرعاً أن ينقسم المسلمون إلى دويلات في مناطق متعددة كما هو حالهم الآن، فخرج علي بن أبي طالب t لمفاوضة طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام في البصرة لثَنْيهم عن رأيهم، وكانت عائشةُ رضي الله عنها قد ذهبت قبله هناك للإصلاح بين الفريقين لكن لم يتيسر لها ذلك.
وحينما وصل علي بن أبي طالب إلى العراق، نزل بالكوفة، ثم أرسل القعقاع بن عمرو إلى طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام يسألهما عما يريدانه، فأخبراه أنهما يريدان الاقتصاص من قتلة عثمان بن عفان، ولا يعارضان بيعة علي بن أبي طالب، فقال لهما القعقاع: نعم ولكن لا بد أن يكون الذي يتولى ذلك هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالبt فلا يصح أن يأخذ كل أحد حقه بنفسه لأن ذلك سيُفضي إلى الفوضى، فأقرَّا له بذلك، واتفقا معه في ذلك، وقد كان زحف علي بن أبي طالب بجيشه إلى البصرة ليراقب الوضع عن كثب، ولكن أصحاب الفتن من قتلة عثمان t وكانوا مندسين في الجيشين عزَما على إشعال الحرب بين الطرفين، قبل تنفيذ ما اتُفق عليه من الطرفين لعلمهم بأن ذلك يُفضي إلى قبضهم وإقامةِ القصاص عليهم جميعاً، فقتلة عثمان بن عفان في الجيشين بدأوا يتراشقون فيما بينهم، فظن كل طرف أن الطرف الآخر غدر به، ولم يلتزم بما اتفق عليه.
وعلى كل حال وقعت الحرب بين الفريقين في موقعة الجمل، وكانت في جمادى الأولى (سنة: 36 من الهجرة) وانتهت بهزيمة جيش طلحة والزبير، وقد قُتل كل من طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام في ذلك الوقت، فأما طلحة فقد قتله في أصح الروايات مروانُ بن الحكم بن أبي العاص، وكان من جيش طلحة اعتقاداً منه أن طلحة أعان على قتل عثمان، فقتله مروان ثأراً منه لعثمان، وأما الزبير فقد قُتل بعد انصرافه من الحرب، واعتزاله عنها حين تبين له أن الحق مع علي t قتله عمير بن جرموز، وهو في طريقه إلى مكة، وأعانه على قتله فضالةُ بن حابس، ورجل آخر، يقال له: نفيع.
خروج علي بن أبي طالب إلى الشام
وبعد انتهاء معركة الجمل، واستسلام من كان بها من جنود البصرة خرج علي بن أبي طالب بجيشه إلى جهة الشام لمفاوضة معاوية بن أبي سفيان لأنه كان رافضاً لبيعة علي بن أبي طالب قبل أن يُقتصَّ مِن قتلة عثمان بن عفان، وكانت المراسلات بيينهما على قدم وساق، فزحف كلٌّ من الجيشين إلى الآخر حتى التقيا في موقعة (صَفِين) وهي اسم مكان بين العراق، والشام، وكان ذلك سنة: (37 من الهجرة).
وبعد أن اجتمع الطرفان وجها لوجه، وتفاوضا طويلاً أصرَّ معاوية على موقفه من الاقتصاص من قتلة عثمان بن عفان أولاً قبل الحديث عن موضوع البيعة، فبدأت الحرب بين الطرفين، واستمرت أياماً، وبعدها ترجَّحت كفةُ الحرب لصالح جيش علي بن أبي طالب t، وكانت الهزيمةُ قد حلَّت بجيش الشام، أوكادت، فشاور معاويةُ بن أبي سفيان عمرَ بن العاص t داهية العرب فيما يصنعه، فطلب عمرو بن العاص من معاوية أن يأمُر جيشَه أن يرفعوا المصاحف على أَسِنَّة الرِّماح إشارة منهم إلى ضرورة التحاكم إلى كتاب الله، وهذا من دَهاء عمرو بن العاص t، فبدلاً من رفع الراية البيضاء لإظهار الاستسلام رفعوا المصاحف أي أنهم أرادوا بذلك أن يُحوِّلوا الهزيمة إلى مبادرة، فتشاور علي بن أبي طالب t مع قادة جيشه، فاختلفت كلمتُهم في أول الأمر ظناً منهم أنها منهم حيلة، إلا أن رأيهم قد استقر في الأخير على قبول التحكيم.
الهدنة بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما
وبعد رفع المصاحف طلباً لتحكيم كتاب الله بين الفريقين اتفاقا على وضع الحرب وإيقافها، وأن يختار كل فريق رجلاً منهم مُفاوضاً عنه حتى يُقررا ما يريانه أصلح للأمة على أن يكون قرارهما مُلزِماً للفريقين، فاختار فريق علي بن أبي طالب أبا موسى الأشعري، واختار معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص على أن يجتمعا في السنة القادمة في مكان يقال له: دومة الجندل.
وعندئذ رجع كلُّ فريق إلى موطنه الذي جاء منه، فرجع معاوية بن أبي سفيان بجيشه إلى الشام، ورجع علي بن أبي طالب بجيشه إلى الكوفة، فكان معاوية بعد ذلك يحكم الشام ومصر في حين أن عليَّ بن أبي طالب كان يحكم العراق، وإيران، والخليج العربي من اليمن إلى تبوك.
معركة النهراوين وهزيمة الخوارج
بعد قبول علي بن أبي طالب التحكيم خرجَ فريق من جيشه معترضين عليه في قبول التحكيم كما أشرنا إليه سابقاً، وقالوا له: لا حكم إلا لله، وإنك يا علي قد حكَّمت الرجال، ولم تُحكِّم شرع الله، فإن لم تتراجع، فأنت كافر، يجب علينا أن نقاتلك، حاول علي بن أبي طالب t في أول الأمر إقناعهم بالعدول عن موقفهم، فلم يقبلوا منه، ثم طَلب منه أن يعتزلوه، ولا يقاتلوه، فرفضوا إلا أن يقاتلوه، فقاتلهم علي بن أبي طالب t في معركة النهراوين (موقع بين بغداد وحلوان) وكانت (سنة 38 هـ) فأبادهم عليٌّt عن بكرة أبيهم، ولم ينجُ منهم إلا أفراد قليلة.
صورة التحكيم في دومة الجندل
لم يُسفر عن التحكيم الذي عُقد في دومة الجندل بعد الهدنة حلٌّ يجمع الفريقين على إمام واحد لأن الحكمين على الصحيح من الروايات أرجعا أمرَ الخلافة إلى الأشخاص الذين تُوفي رسول الله r، وهو عنهم راض، فالأمة هي التي تختار من تشاء منهما أومن غيرهما، وإلى ذلك الوقت يَحكُم كل منهما المناطق التي تحت نفوذه، ولا يصح في تحكيم دومة الجندل ما اشتهر من أن عمرو بن العاص t خدع أبا موسى الأشعري عند إعلان نتيجة التحكيم، ولا يُظن بعمرو بن العاص أن يلجأ إلى مثل تلك الحيلة في تثبيت معاوية بن أبي سفيان، وهي لا تليق بأراذل الناس فضلاً عن شخصية مثل عمرو بن العاص في فضله ومكانته، ولأنه كان هناك شهودٌ من الطرفين، وكانت تلك الشهود حاضرة بموضع التحكيم، فلم تكن تَقبل من أحد خلاف ما اتفقا عليه في وقت المناقشة كما لا يعقل أن تصدر مثل تلك الخيانة عن تحكيم يراد به حَلُّ خلاف المسلمين لأن تلك الحيلة لو كانت صحيحة لأجَّجت الخلاف أكثر من ذي قبلُ، ولا تجمع، وعلى كل حال استمر الوضع على ما هو عليه.
وضع الفريقين بعد تحكيم دومة الجندل
بعد الانتهاء من تحكيم دومة الجندل بدأ صراع النفوذ على المناطق، فكان جيش معاوية بن أبي سفيان يزداد قوة، بل شرع في السيطرة على مناطق كانت تحت نفوذ علي بن أبي طالب، ولا يجد علي بن أبي طالب من ينهض معه من شيعته لردع جيش معاوية من ذلك، فكان الأمر كما قال ابن كثير: «قد تنغَّصت على علي بن أبي طالب t الأمورُ، واضطرب عليه جيشه، وخالفه أهل العراق، ونكلوا عن القيام معه، وكلما ازداد أهل الشام قوةً ضعُف جأشُ أهل العراق، هذا وأميرهم خير أهل الأرض في ذلك الزمان، ومع ذلك خذلوه، وتخلَّوا عنه حتى كره الحياة معهم، وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن، وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: ما ينتظر أشقاها، ما له لا يَقتُل»([6]).
وهذا من خذلان الشيعة لعلي بن أبي طالب أمام خصمه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فكلما حاول علي بن أبي طالب t أن يعود إلى منع معاوية وجيشه عن المناطق التي تحت سيطرته، كان جيش الكوفة يرفض ذلك، بل بدأوا يتفرقون عنه.
سبب مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ما وقع على الخوارج في معركة النهراوين من هزيمة نكراء على يد علي بن أبي طالب t أغاظ الخوارج في جميع المناطق الأخرى، وبقي ذلك في نفوسهم، فمن أجل ذلك اجتمع ثلاثة من الخوارج، وهم: عبد الرحمن بن ملجم الحميري، والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي، فتذاكروا بإخوانهم في النهراوين، وما صنع بهم علي بن أبي طالب t، فقال ابن ملجم: أما أنا فأكفيكم علي بن أبي طالب، وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان، وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص، فتعاهدوا، وتواثقوا أن لا يرجع رجل عن صاحبه حتى يقتله، أو يموت دونه، فتعاهدوا على تنفيذ المهمة في سبعة عشر من رمضان (سنة 40 من الهجرة).
فأمكن لعبد الرحمن بن ملجم تنفيذُ ما عزم عليه من اغتيال علي بن أبي طالب t أمير المؤمنين في الموعد المحدد، ضربه برُمح مسموم عند مدخل مسجد الكوفة في صلاة الفجر، ولم يكن معه أحدٌ من الحراس في تلك الساعة، ونجا معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص من المؤامرة لأن أجلهما لم يحضر، فجُرح معاوية t في تلك الليلة، جرحه في رجله البرك بن عبد الله جرحا طفيفا تعالَجَ منه، فبرئ، وأما عمرو بن العاص فلم يخرج لصلاة الفجر في ذلك اليوم لمرض كان به، فخرج بدلَه خارجةُ ابن أبي حبيب، فقتله الخارجي عمرو بن بكر، فأراد عمروٌ بن بكر عمروَ بن العاص، وأراد الله خارجة بن أبي حبيب، هذا مقتل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب t.
تنازل الحسن بن علي بن أبي طالب عن الخلافة لمعاوية بن سفيان
إن الحسن بن علي رضي الله عنهما ـ وهو أكبر من الحسين ـ تنازل عن الإمارة لمعاوية بن أبي سفيان بعد مقتل أبيه علي بن أبي طالب t تنفيذاً لما أخبر به النبي r عنه بقوله r:«إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»([7]). وسُمِّي ذلك العام الذي تنازل الحسن بن علي لمعاوية بعام الجماعة لاجتماع كلمة المسلمين، واتفاقهم على أمير واحد، وهو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
وبذلك صار معاوية بن أبي سفيان t من ذلك الوقت أميراً لجميع المسلمين، وفي أثناء إمارة معاوية t تُوفي الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في حدود (سنة50 من الهجرة) واستمر الوفاق بين المسلمين على ما كان عليه إلى وفاة معاوية بن أبي سفيان t عام (60 هـ) من الهجرة إلا أن معاوية بن أبي سفيان في مرضه الأخير عهد إلى ابنه يزيد بن معاوية الخلافة مِن بعده، فبويع له بالخلافة بعد موت أبيه في رجب سنة ستين من الهجرة، وقد أخطأ معاوية في ذلك ـ عفا الله عنه ـ من وجهين: الأول: أنه جعل الخلافة وراثة مَلَكِيَّة بعد أن كانت شورى بين المسلمين، الثاني: أنه عهد الخلافة لابنه، وهو يعلم أنه غير أهل للخلافة لفسقه وفجوره.
يتبع
الهوامش:
([3]) مقدمة هدي الساري ( (495).
([5]) صحيح البخاري برقم (2426).
([6]) البداية والنهاية ( 7/357/ 358).
([7]) صحيح البخاري برقم (6692).