جلستُ في زاوية المقهى، أمامي كوب قهوة تفوح منه رائحة الصباح، وكتاب يحمل عنوانًا غريبًا: “Geylame”. كان الكتاب هدية من حسن قراني، الكاتب الذي لا يكتفي بأن يكون كاتبًا، بل يريد أن يكون شاهدًا على أثر كلماته في القلوب. أعدتُ ترتيب أفكاري، بينما كانت الفتاة الصغيرة تقدم لنا القهوة بابتسامة خفيفة. بدت لي كأنها إحدى شخصيات الرواية التي لم أفتحها بعد، وكأن حسن قد رسمها في ذهنه قبل أن تظهر أمامي. للحظة، فكرتُ في مزاحٍ عابر عن جمالها، لكنني تراجعت خشية أن تأخذ حبيبتي الأمر على محمل الجد؛ إنها مجرد دعابة عابرة، لا أكثر.
المكان يعجّ بالضجيج، لكنه ضجيج من النوع الذي يذكّرك بأن الحياة مستمرة، وأن كل صوت يحمل قصة. شعرتُ أنني أعيش في مشهد كتبه حسن مسبقًا دون أن يدري، مشهد يحمل ذات الأجواء التي وصفها لي عندما تحدث عن كتابه. قال لي حين أعطاني إياه: **”اقرأه وأخبرني بما تراه فيه.”** إنها كلمات بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل عمقًا يشبه تلك النظرات التي ترسلها الحياة حين تطلب منك أن تتأملها.
فتحتُ الكتاب ببطء، وكأنني أفتح نافذة إلى عالم جديد. قصة “جَيْلامَّة” تتناول موضوعًا قائمًا في مجتمعنا، موضوعًا يطرق أبواب الوجدان دون أن يطلب الإذن. شعرتُ بحماسة غريبة لقراءته، ليس فقط لأنه هدية من الكاتب نفسه، بل لأنه دعوة إلى الغوص في أفكار لم أختبرها من قبل. هناك شيء خاص في أن يُهديك كاتب كتابه، شيء يجعلك تشعر وكأنك شريك في رحلة الكتابة، وكأنك تتحمل مسؤولية أن ترى ما لم يره الآخرون.
تذكرتُ الكتّاب الذين أهدوا كتبهم عبر التاريخ؛ تذكرتُ رسالة دوستويفسكي إلى صديقه وهو يهديه إحدى رواياته، وكيف طلب منه أن يقرأها بعينيه وقلبه. فكرتُ في سارتر الذي كان يرى أن القارئ هو شريك الكاتب في إبداع النص، وأن الكتاب لا يكتمل إلا حين يُقرأ. حتى نيتشه، في إهداءاته الخاصة، كان يُلقي بأفكاره كمن يضع أمانة ثقيلة على عتبة قلب القارئ.
حسن، في إهدائه البسيط، كان يسير على خطى هؤلاء. لكنه لم يكن يطلب مني فقط أن أقرأ، بل أن أعيش التجربة، أن ألتقط ما بين السطور، وأعود إليه لأخبره بما رأيت. فكرة أن يعود القارئ إلى الكاتب بعد القراءة ليست شائعة، لكنها طبيعية جدًا عندما يكون الكاتب هو من بادر بإهداء الكتاب. إنها لحظة يلتقي فيها الخيال بالواقع، حيث يصبح النص مساحة للحوار لا مجرد كلمات مطبوعة على الورق. القهوة أمامي بدأت تبرد، لكن شغفي بقراءة الكتاب كان يزداد دفئًا. في الغالب، أنا أميل إلى الأدب القصصي، ذلك النوع الذي يحمل معاني أكبر من الأحداث نفسها. شعرتُ أن “Geylame” يشبه كتابًا قرأته من قبل، لكنه مختلف بما يكفي ليكون تجربة جديدة تمامًا. أغلقتُ عيني للحظة، وتخيلتُ أنني أعود إلى حسن بعد أيام، أضع الكتاب على الطاولة، وأقول له: “لقد رأيتُ فيه أكثر مما توقعت.”
أن تهدي كتابًا هو أن تقول للآخر: “أنا أثق بك وبفكرك.” وأن تقرأ كتابًا أُهدي إليك هو أن تحمل هذه الثقة بحرص، أن تتأمل الكلمات، أن تتركها تغيرك بطريقة أو بأخرى. فكرتُ في حسن، وفي كل الكتّاب الذين تركوا كتبهم بأيدي قراءهم، كأنهم يضعون جزءًا من أرواحهم في أيدٍ أمينة. وهذه الهدية، وهذه الكلمات، ليست سوى بداية لحكاية أكبر.
الكاتب: عبدالحكم بشير علي