عندما تمر الأمم بمحن وأزمات، وتتكاثر عليها المصاعب، ويصبح وعيها مشوشا، وتتذبذب بين التصورات الخاطئة والمحاولات العملية الفاشلة، تصل إلى مرحلة من التيه والضياع، وتشعر بأنها في فترة انقطاع تاريخي بين قيمها وواقعها. والأمة الصومالية ليست استثناءً من هذه السنن التاريخية.
فهذا الشعور بالانقطاع الذي يشبه ” الغيبوبة” يخلق نموذجَ حكمٍ وحياةٍ، ونظامَ قانونٍ واخلاقٍ يُفسد روحَ الأمة، وينزع عنها حقوقها ومكانتها، ويؤازرُ تراجع دورها الحضاري مما يوقف تطورها، ويشيع الظلم فيما بينها، ومن هنا تسيطر على النفوس فكرة شديدة المثالية في بعض الأحيان أو شديدة التطرف في احايين أخرى وهي” العودة ” إلى جذور الأمة السليم النقي، والإصرار على إعلاء شانها كما كانت من قبل.
وبما أن لدى الجماهير الصومالية ايمان عميق بالدين الإسلامي، ففي الفترات الصعبة من تاريخها، تلجأ إلى إعادة توظيف قيم الاسلام باعتباره المخرج الوحيد لها، وإذا كان الرجوع إلى الدين هو المخرج الأمثل من المراحل الصعبة من تاريخ الأمة، فمن الطبيعي أن تتزايد طرح الأسئلة والاستفهامات حول دور علماء الدين عند المنعطفات الحرجة التي تواجه الأمة الصومالية.
فالمكانة الدينية والاجتماعية التي يصبغها الشعب الصومالي على العلماء هي مستمدة أولاً من القداسة التي يُضفيها الدين الإسلامي على حاملي علمه وفقهه، مما يمهد لأصحاب العلم الشرعي وبشكل خاص ” التيارات الإسلامية” أن تكون لهم سلطة شرعية في المجتمع الصومالي، تضاهي السلطة الرسمية وقد تكون أعلى عليها، مما يحصنها أي السلطه الشرعية للعلماء من التبعية والخضوع للسلطة السياسية الرسمية، وفي حال خضوع السلطة الدينية أو مُسايرتها للسلطة الرسمية تفقد مصداقيتها في المجتمع الصومالي وتأثيرها الفعّال عليه.
لذلك، عندما يبحث المواطن الصومالي عن مواقف العلماء عن واقعه المُعاش، لا يفعل ذلك فقط من باب البساطة والاستعجال والسطحية، وانما يفعل كذلك ايضا من باب الدراية العميقة على أهمية دور العلماء في المجتمع باعتبارهم صوت الأمة وضميرها الحي، فحدس المواطن البسيط يُخبره بأن الخطاب الديني هو خطاب حياة متواصل في الشدة والرخاء في الدين والدينا، وليس خطاب متقطع، وحذر، ومجامل، هذه القناعة المجتمعية تعتقد أن حدود علماء الدين هي حدود همومهم، واحلامهم، وأتراحهم، وأفراحهم، وحاضرهم، ومستقبلهم، فهم ينتظرون من العلماء الفعل الإيجابي حول قضاياهم الكبرى، والتفكير الصحيح بما سوف تؤول إليها الأمور.
المجتمع الصومالي مُمتَحنٌ بمآزقَ متتاليةٍ، ويَعتبر هذه المآزق “فتناً”، وإذا توارى العلماء أو عجزوا عن البحث عن حل لهذه الفتن التي طال أمدها، والتي ما تزال تعسف به تحت غطاء اختيار السلامة أو الحيادية، يجعل العلماء نخبة منفصلة تُغرد خارج سرب المجتمع مما يُفقدُهم – أي العلماء – في نهاية الأمر ثقة المجتمع التي كانت بمثابة كسوة للعلماء على مرّ العصور من تاريخ هذا المجتمع، مما يجعل المجتمع الصومالي وحيداً يتخبط بين أنواع وأطوارٍ من الفتن عاجزاً عن إيجاد مخرج لها، ولا نتوقع بتخبطه هذا أن يصل إلى بر الأمان من هذه الفتن، لذلك يُعتبر مواقف العلماء الصائبة في وقت الشدائد أنها كفاح ونضال ضد الاستسلام للواقع والركون إلى الظلمة، وهي ايضاً احتضانٌ للمواقف الحقة، وإعلانٌ عن المبادئ، وإطلاقٌ لرسائل تحمل سلاح الإيمان، وتقديمٌ لمسائل دينية وقيمية ومجتمعية تكشف الزيف، وتنصُر للحقّ، وتنتصر للمظلوم.
إن تردد العلماء عن القيام بأدوارهم على الوجه المطلوب، فتح المجال في أن يتصدر المشهد من هم ليس لهم أهلية في ذلك، وهذا إفراط وهدر لمقدّرات الأمة، واعترافٌ وتسليمٌ خفيٌ لأسطورة فصل الدين عن الحياة.