الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
يعد كتاب ” قواعد في الممارسة السياسية ” من أجمل الأقلام في مجال السياسة ، و يعتبر هذا الكتاب الجزء السادس من سلسلة إعداد القادة وقد تناول الكاتب بعض القواعد والتجارب السياسية الميدانية لمختلف الأمم والشعوب ، فهو بسيط يبحث في الأساسيات ولا يدخل في التفاصيل ، يعطي مبادئ أولية وخطوات أساسية في تكوين الشخصية السياسية الصحيحة وفهم اللعبة السياسية ، ضم الكتاب مجموعة من القواعد الأساسية المتعلقة بطبيعة الظاهرة السياسية ، والقواعد المتعلقة بالفاعل السياسي ” رجل الدولة ” وكذلك القواعد المتعلقة بالممارسة السياسية .
أولا : تناول المؤلف موضوع الظاهرة السياسية وذكر أنه عادة ينتج التدافع الإنساني نتيجة ثلاثة أمور : الاختلاف ، والتنوع ، والنذرة .
ثم بين أنواع التدافع وقسمها إلى : تنافسي ، وصفري ، وهما نوعان أساسيان من التدافع البشري .
فالتدافع البشري مثلا : أن تكون النتيجة النهائية للتدافع ببن طرفين متنافسين ” فوز الطرفين بنسبة من النسب ” على مكاسب معينة يرضى بها كلاهما .
أما الصراع الصفري : فيقصد به الصراعات الصفرية ” Zero sum Game ” وفي هذا الصراع لا يتقبل كلا الطرفين وجود الطرف الآخر، ويسعى إلى إنهائه تماما ، والخروج بفوز نهائي ساحق كامل ، بينما يخرج الطرف الثاني من الصراع مغبونا ومتألما ، إما منسحبا مكسور الإرادة ، وإما عازما على الإعداد لجولة أخرى من الصراع ، وهذا النوع من الصراع موجود في الساحة السياسية للصومال ، فالأحزاب السياسية مثلا التي تسعى إلى رئاسة البلاد تخطط باستئصال منافسيها من الشخصيات البارزة والأحزاب السياسية ، ويحرص السياسي تشويه سمعة منافسه في هذا المجال.
فمن هو الذي يحدد طبيعة التدافع السياسي ؟
إن طبيعة التدافع تتحدد بناء على عاملين :
الأول : كيفية رؤية أطراف الصراع كافة له ، فالصراع يقوم بين طرفين أو أكثر حول قضية ما ، وبالتالي فمنظومة المعتقدات والتصورات والأهداف والمصالح والسياسات الخاصة بكل طرف من أطراف الصراع تؤثر بوضوح في تحديد طبيعة الصراع .
الثاني : ميزان القوى بين أطراف الصراع المختلفة ؛ ففي حالة توازن القوى بينهما تتحدد طبيعة الصراع بناء على رؤية الأطراف المختلفة ، وفي حالة رجحان كفة ميزان القوى لصالح أحد الأطراف ، وافتقاد البقية استراتيجية بديلة ؛ تصبح رؤيته للصراع هي التي تحدد طبيعته .
ثانيا : طرح المؤلف قاعدة شيقة في توزيع القيم والموارد سلطويا ” جوهر السياسة ” ، وبين أنها القوة وتوزيعها بين الأطراف ، والسلطة والوصول إليها والاحتفاظ بها ، والنفوذ لحماية القوة والسلطة معا ، وأن السياسة ترتبط ارتباطا وثيقا بظاهرة التدافع ، والذي ينشأ عن الظواهر الثلاث الملازمة للوجود الإنساني ” الاختلاف والتنوع والنذرة ” “
وللسياسة تعاريف عديدة ذكر المؤلف بعضا منها ، وأشار بعضا منها في مظانها من الكتب المتعلقة في هذا المجال .
فمن تعريفاتها على سبيل الحصر :
– القوة وتوزيعها بين الأطراف .
– فن إدارة الدولة .
– فن الممكن .
– فن التنازلات المتبادلة .
ثالثا : في القاعدة الرابعة ذكر المؤلف كلاما جميلا في أدوات الممارسة السياسية التي تكمن في المزج بين القوة الناعمة ” Soft power ” والقوة الصلبة ” Hard power ” .
وأضاف أن القوة الناعمة تهدف إلى كسب القلوب والعقول ويندرج تحتها : الدبلوماسية والإعلام والدعاية والسياسة والتعامل المباشر وغير المباشر .
وأن القوة الصلبة فهي تهدف إلى إخضاع العدو ، وكسر إرادته ، ويندرج تحتها المال والمنصب والمنح والمعونات والتسهيلات المختلفة ، وكذلك المنع مثل أنواع الحصار الإقتصادي ، ويدخل فيها استخدام العنف المادي ؛ أي الجيش والشرطة وآليات العنف المتنوعة .
رابعا : شرع الكاتب في ماهية الفاعل السياسي ” رجل الدولة ” ونمط تفكيره ، وأنه الذي يتخذ القرارات ، فيترتب عليها إنجازات عظيمة أو انكسارات كارثية ، فهو فاعل سياسي بامتياز …
” ولا تعتمد القدرة أو الكفاءة السياسية فقط على المواصفات الشخصية والاستعداد النفسي ؛ بل هناك عدة أمور أساسية تؤثر في رجل الدولة ، وللتعليم والتدريب السياسي المحترف أثر كبير “.
خامسا : ذكر الكاتب عنصرا مهما في الممارسة السياسية وهو ” الدولة ” ويمكن تعريفه بأنه كيان سياسي وقانوني منظم يتمثل في مجموعة من الأفراد الذين يقيمون داخل حدود معينة وتنظم شؤونهم سلطة تتمتع بحق استخدام القوة .
سادسا: ركز الكاتب من خلال هذه القواعد عناصر مهمة بالنسبة للممارسة السياسية وذكر بأن الدولة تتكون من خمسة عناصر :
الشعب : وهو مجموعة من الأفراد يكون أساسا للدولة ، فلا يمكننا تصور دولة من دون هذا التجمع المستقر .
الإقليم : وهوالرقعة الجغرافية كبرت مساحتها أو صغرت ، أو الأرض التي يستقر عليها الشعب بصورة دائمة ، ويتعدى مفهوم إقليم الدولة اليابسة إلى المياه الإقليمية والفضاء الإقليمي للدولة ، وللإقليم تأثير كبير في سياسة الدولة .
الحكومة : وهي الجهة التي تتخذ القرارات في الإقليم ، ويمكننا تعريف الحكومة بأنها السلطةالتي تمارس السيادة في الدولة لحفظ النظام وتنظيم الأمور داخليا وخارجيا .
السيادة : وتعنى امتلاك الدولة سلطة الهيمنة الداخلية على إقليمها وأفرادها ، واستقلالها عن السيطرة الخارجية ، وتتجسد الأولى في قوة سلطة الدولة وإرادتها داخليا ، والثانية في الاستقلال عن الدول الأخرى وعدم الخوض لها .
الاعتراف : أشار الكاتب إلى أن هناك من يضيف عنصر الاعتراف بالدولة من الدول الأخرى ، خاصة إذا كانت الدولة – أو الحكومة – في حالة النشأة .
سابعا : وظائف الدولة أيضا ركن مهم في الممارسة السياسية ، لأن الدولة ليست غاية وإنما هي وسيلة لتحقيق الأمن والتنمية ، ويمكن تقسيم وظائف الدولة إلى :
١: الوظائف الوجودية : وتشمل الوظائف العسكرية ، الوظائف الأمنية ، الوظائف القضائية ، الوظائف الخارجية ، الوظائف المالية.
٢: وظائف الاستقرار : وهي الأعمال التي تحقق الاستقرار ، فهذا الكيان الذي ضمن وجوده وبقاءه في المرحلة الأولى يسعى بعد ذلك إلى الاستقرار ، وتشمل الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي ، وبناء الطرق والمطارات والقنوات المائية ، وتمديد المياه والكهرباء ، والاتصالات السلكية واللاسلكية والبريد ، وتنظيم الزراعة والصناعة والتجارة والتعدين واستمرار الحياة ، بالإضافة إلى تكييف العلاقات مع المجتمع الدولي .
٣: وظائف التطوير والتنمية والرفاة : وتكون هي أولوية الدولة والمجتمع ، ومن أهم الوظائف في هذا الإطار : الوظائف التنموية ، والوظائف التوزيعية ، والوظائف الجزائية .
ثامنا : وهنا أشار الكاتب أن رجل الدولة يحتاج إلى وعاء معرفي كبير ، وإلى مهارات ممارسة الفعل السياسي ، ليس فقط بمعرفة الأحداث وامتلاك ذاكرة تاريخية قوية عن القضايا التي يعمل من أجلها وما يرتبط بها ، وركز المؤلف على بعض الضروريات التي لا يستغني عنها الفاعل السياسي ومنها على سبيل المثال: جوهر العملية السياسية ، الإقتصاد الكلي ، سيكولوجية الجماهير ، ثقافة المجتمع ، الظواهر العالمية .
تاسعا : ومما جذبني عبارة الكاتب ” رجل الدولة مغامر وليس مقامرا ” صحيح فإذا كان القرار مثلا منطقيا تم وفق أسس علمية وبحث في البدائل والخيارات تكون مغامرة ، ولو لم تكن النتيجة حتمية ، أما المقامر : فهو الذي يتحرك بعفوية من دون تخطيط أو بقد من التخطيط البسيط ، والقاعدة النبوية ” اعقلها وتوكل ” فىجل الدولة مغامر ، لأن السياسة لا تعرف الضمانات ، وإنما هي مخاطر محسوبة .
عاشرا : من أهم القواعد التي ذكر الكاتب قاعدة ” حسن النية ” وأنه لا بد لفاعل السياسة أن يكون بين حسن النية وفهم قواعد اللعبة ، وحسن النية وحدها لا تكفي في قيادة دولة تعيش أوساط دول تنافق من أجل مصالحها الخاصة ، وربما تجر حسن النية إلى هزائم متتالية إن لم تضف باستخدام قواعد اللغة ، وبالتالي فلا بد لرجل الدولة أن يرى العالم كما هو ، لا كما يتمناه حين يتخذ القرارات ، فلا ينظر إلى الفعل بل يهتم بمنطلق الفعل ، فمثلا لو أراد أن يتعامل مع حركة سياسية فإنه أولا ينظر إلى أهدافها ، ويدرس حجم تأثيرها في أهدافه وخططه ، ولا يكتفي بذلك ، بل ينظر إلى المنطلق من وراء الفعل .
الحادي عشر : في نهاية الكتاب يشير الكاتب أن الفاعل السياسي بين المكاسب الصلبة والمكاسب الهشة ، الصلبة هي التي يستطيع الدفاع عنها والحفاظ عليها ، والهشة هي التي يعطيها الخصم رجل الدولة ، لكنه قادر على استردادها في أي وقت يريد ، فعندما يتفاوض طرف سياسي مع الأطراف الأخرى عادة ما يتنازل عن بعض المكاسب الهشة كي يرضي الطرف الآخر ، وبالتالي يمكن الطرف الآخر أن يشعر بالانتصار فتخف عنه درجة الاحتفان .
الثاني عشر : ختاما عرض الكاتب موضوعا شيقا في ” الطاولة الساسية ” وأنها إذا حملت في ما لا تطيق فلا شك أنها ستنكسر حتما ، وأخذ الكاتب مثالا حيا في حضور الرسول – صلى الله عليه وسلم- طاولة السياسة في صلح الحديبية ، فلم يتوقف الرسول صلى الله عليه وسلم عن أهدافه ، بل قصد تجاه هدفه مع مراعاة ما تحتمله المرحلة ، فوافق أن تمسح البسملة ، ثم وافق أن يحذف لقبه كرسول ليكتب باسمه مجردا ، وهذه بداهته وعبقريته صلى الله عليه وسلم ، فالفكرة مرتبطة بالطاولة والقدر الذي تتحمله من أوزان ، وهذا النوع من التنازل يجدي النفع الكثير ، ولعل الساسة في الصومال يفتقدون هذا ، ويرون التنازل هزيمة وانكسارا ، فالله المستعان وعليه التكلان .
وختاما فالكتاب مفيد في مجاله وفريد من نوعه ، صغير حجمه لكنه عظيم النفع ، ومما جذب انتباهي استشهاده بأمثلة من التجربة النبوية وهذا ما يزيد طعمه وجماله والله الموفق .
بقلم / يعقوب محمود صلاد – لاسعانود
Post Views: 170