البادية، ذاك المكان وتلك الأرض التي عشنا فيها أيامًا وأسابيع خلال عطلاتنا الدراسية، في أيام الطفولة، كانت ملاذًا للروح، ومأوى لذاكرتنا الطرية. كانت أجواؤها تفتح شهيتنا للطعام، وتجعل نومنا عميقًا هادئًا، وتخيط لنا في عالم الذكريات نسيجًا يصعب تفكيكه مع الزمن. تربطنا بالطبيعة، بأصلنا، وتفرض علينا حب أهلنا في البادية واحترام طريقتهم في الحياة. كانت مأوى لفضولنا وشغبنا، ومسرحًا لتجاربنا الأولى، حيث الأرض ممتدة بلا حدود، والتراب يحتضنك، وأمطار الربيع تعطر الهواء برائحة لا تُنسى. كان دفء الأرواح يسبق دفء الشمس، وكانت البساطة تُغني عن كل تعقيد. هناك، كل شيء يدعوك لأن تجد ذاتك ، وتفرح مع أهلك.
كانت تلك الأيام مليئة بلحظات لا تُنسى؛ لحظات اتسمت بالسكينة والبساطة وتنوع المهام، حيث لا وجود لروتين ممل، بل كل يوم يحمل طابعًا جديدًا من الفرح والاكتشاف. لحظات اتصفت بالسلام الذي يعم المكان، بصفاء القلوب وسعة الصدور، وطيبة النفوس، وكرم الأيدي، وعفة اللسان والفرج، وتفسير الكلام بما فيه حسن الظن. لم يكن هناك أثر للبخل، ولا مظاهر للترف؛ فكلا الأمرين مذمة في البادية. بل كانت روح اجتماعية تسري بين الناس، تضامن صادق، وفهم ضمني أن ما لي هو لك، وما لك فهو لي، دون انتظار مقابل.
قبل طلوع الفجر، كنا نستيقظ على سكون البادية ونرى السماء وقد امتلأت بالنجوم وهي تتلألأ كحُرّاس الليل. كان الظلام يلفّ كل شيء، فنغادر فراشنا المتواضع وهو عبارة عن حصير صومالي بهدوء، نحمل في أيدينا إبريقًا بلاستيكيًا بسيطًا، ونمضي بعيدًا عن الأرجاء للتبول. ثم نعود، لنجد الحطب قد أُشعل، ورائحة الشاي تسبق ناره، تعبق المكان وتوقظ الحنين.
نصلي جماعة أو فرادا أحيانا ، يؤذن أكبر الموجودين سنا أو يتم تشريفنا نحن أطفال المدن – وهم يتوسمون فينا بالعلم رغم صغر سنا – فنتقدم للإمامة ، وإن كان قد بات معنا تلك الليلة ضيف من علماء الصوفية فهو أحق منا بالإمامة ، وتبدأ الأغنام باكرا بثغائها المعتاد وإن كان التيس يتميز عنها بصوته الجهروي المفعم بالحيوية والنشاظ . كان الثغاء دليلًا على الأمان؛ علامة على أن الجميع بخير. نطوي السجادة ونضعها في مكانها اللائق، ونترك الحصير لأنه يشكل مائدة الطعام تارة ويعتبر الفراش تارة ويشكل المصلى تارة أخرى ، ويبتعد الرجال قليلا للتسوك والتعرض لأشعة الشمس في الصباح الباكر.
عند فناء الخيمة، يحتبي أكبر القوم سنًا، يُقدَّم له الشاي أولًا، ويُحضَّر له “العنجييلو” الطازج، وما أجمله مظهرًا وطعمًا في البادية. توضع أمامه أصناف من اللبن، وشيء من اللحم المقدد، وزبد أصلي من ماشيته ، زبد فيه نكهة شجر “Geed-Xamur”. وإلى جانب صاحب البيت وراعي أهل الخيمة تلك العصا “Hangool” التي تشبه ما نراه في رسوم الفراعنة بمتاحف مصر، يُستخدمها للرعي ولحاجاتٍ أخرى.
بعد الإفطار، ينطلق الأب وأبناؤه نحو مراعي الإبل ومضاربها، بينما تمضي الأم إلى زريبة الأغنام تعتني بالماشية. وترتب الفتاة كل شيء مبعثر ، فيما يُوقظ الأب أثناء ذهابه لمضارب الإبل أحد أبنائه بضربة خفيفة من عصاه، شاب تأخر في النوم لأنه قضى الليل في حديث حب نقي مع فتاة يحبها. كان قد حمل سلاحه وبندقيته ليتباهى، ثم عاد بعد منتصف الليل، يحلم بأن تكون تلك الفتاة خطيبته قريبًا.
وبينما يُحلب اللبن، كنا نستمتع برؤية الرغوة البيضاء على سطح الإناء ، ونستمتع بصوت الحليب وهو يتساقط بغزارة من ثدي النوق والغنم في الإناء، ذلك الصدى الخافت الذي يلامس القلوب، ويعيدنا إلى طفولتنا المليئة بالشغب وحب الأشياء البسيطة.
حين يقترب وقت الضحى، يتوضأ الجد ويذهب إلى شجرة عرف بها وألفها ، علّق على أحد أغصانها إناء فيه لبن، وآخر فيه خبز صومالي. يصلي على حصير صنع يدويا، نسجته له زوجة ابنه بمساعدة زوجته. يجلس بعد الصلاة على ذاك الحصير، ويجمع حوله أحفاده، يمسح رؤوسهم، يفرح بهم، ويحثهم على شرب اللبن قائلًا:
Caanaha dhama aad faciin iska dhicisaanee. Guulaysta oo Guuleed dhala. Nin walba ibtuu cuno buu ciidamiyaa.
(اشربوا اللبن كله، فالعقل السليم في الجسم السليم . بارك الله بكم وبنسلكم . كل إنسان يصبح حسبما يأكل؛ فكلو ففي هذا صحة أبدانكم وعقولكم