اليوم وانا في مطار دوحة للعبور عليه الى اسطنبول، وكلنا في هذه الأيام اسطنبول، فعلى غير العادة نسيت ان اصطحب الورق معي في هذه السفرة، ففكرت فيما اشغل نفسي به، فلم يكن امامي خيارات كثيرة، فقلت في نفسي: دعني القي نظرة على كتب الفقه للمتأخرين، فلما نظرت إليها تأسفت من الجهود التي أهدرت في الأعمال المكررة، ففي قرون الانحطاط أوقبلها بقليل كان يشغل بال الفقهاء ان يكون لأحدهم مؤلف في المذهب الذي ينتسب إليه بصرف النظر عن القيمة العلمية التي يضيفهامصنفه ذاك، فيشرع في تأليف كتاب، قد كفي عنه بغيره، فنتج عن ذلك هذا الكم الهائل من المختصرات بأسماء مختلفة مع اتحاد محتواها، فكان من دأبهم ان يختصر أحدهم كتابا من كتب من قبله ثم يأتي آخر، فيشرح ذلك المختصر بإعادة ما حذفه المختصر من الكتاب الأول مع اختلاف الألفاظ،ثم يأتي آخر، فيختصر ذلك الشرح في مختصر آخر ، فلا يتوقف التسلسل، فهذا الإمام الغزالي لا يمل ان يختصر كتابا في كتاب ثم يختصر مختصر المختصر في مختصر آخر ، اقول ذلك لانه اختصر الأم للشافعي في البسيط، ثم اختصر البسيط في الوسيط، ثم اختصر الوسيط في الوجيز ثم جاء الرافعي فشرح الوجيز بفتح العزيز ، ثم اختصره النووي في روضة الطالب، ثم اختصرها ابن المقري في روض الطالب،ثم شرح روض الطالب زكريا الأنصاري بأسمى المطالب و ابن حجر الهيتمي بشرح أوسع باثني عشر مجلدا، وعلى هذا استمرت الحركة الدؤوبة في اختصار المختصرات فاعتقد الطالب في هذا العصرأنه ان لم يعن بها كلها فقد فاته كثير من علوم المذهب ظنا منه ان في كل مختصر من العلوم ما ليس في الآخر ولو أنه قصد الى اهم تلك المختصرات بالدراسة والمراجعة حتى يتقنه، ثم اطلع على بقية المختصرات، فإن وجد فيها بعض الزيادات او الفوائد قيدها، ثم وضعها في المكان المناسب من مختصره الذي اعتمده لكان بذلك وفر لنفسه وقتا وجهدا غير قليلين، لكن لو حاول الطالب أن يستقصي المختصرات ضاع وقته بين المختصرات ثم لم يخرج منها بنتيجة تذكر لأنها كثيرة متداخلة، والعمر قصير، والمطلوب من العلوم الأخرى كثير، فلا ينبغي تضييعه في شيء واحد مكرر.
وقد ذكرت في رحلتي السابقة كيف ان الاختصار صار هو شغل الشاغل للمتأخرين من العلماء، فقد ذكرت نموذجا واحدا في الفقه لكتاب واحد كيف ان الأيدي تواردت عليه في اختصاره الى درجة استعصى على العاد حصره. فاليوم احيط بكم ان ذلك لم يكن خاصا بالفقه بل طال جميع الفنون إذ لم تكن العقول تفكر خارج الموجود من الكتب، فبسبب ذلك تقوقعت الأمة على نفسها، فلم تستطع مواكبة المستجدات التي تتطلبها متغيرات عصرهم، فصارت مطمعا لكل المتربصين لها من الأعداء فاحتلوها من دون مقاومة تذكر . فالكتاب الثاني هو في فن علوم الحديث وهو كتاب ابن الصلاح(علوم الحديث ) او مقدمة ابن الصلاح فهذا الكتاب محل أنظار أهل الاختصار فاستعرض معكم في السطور التالية بعض المختصرين له على النحو التالي: اختصره النووي في الإرشاد ثم اختصره في التقريب. واختصره القسطلاني في المنهج المبهج، كما اختصره ابن النفيس في أصول الحديث، وابن دقيق العيد في الاقتراح، ورضى الدين الطبري في الملخص، والجعبري في رسوم التحديث، وبدر الدين ابن جماعة في المنهج الروي، والتبريزي في الكافي، والذهبي في الموقظة، والعلائي في المختصر، وعز الدين ابن جماعة في الإقناع، وابن كثير في اختصار علوم الحديث، وابن الملقن في التذكرة، وهكذا توالت المختصرات واحدة تلو الأخرى على كتاب هو في الأصل عبارة عن مجلدة لطيفة لا يستحمل كل تلك المختصرات. وعلى كل من تلك المختصرات من الشروح ما يزيد عليها عددا، فالمطلوب في المصطلح ان يتقن الطالب نخبة الفكر مع شرحها نزهة النظر لابن حجر، ثم التقريب للنووي ثم علوم الحديث لا بن الصلاح، وكفى، ومن أراد أن يستذكره عن ظهر قلب فليحفظ الفية العراقي في نظم علوم الحديث لابن الصلاح. ثم يطلع على ما تيسر من المختصرات لمعرفة ما فيها من الفوائد.
وهناك اتجاه آخر في الاختصار اشد تعقيدا من سابقه، يتمثل في أن بعض الفقهاء ذهبوا بالاختصار الى ما هو ابعد من مجرد اختصار، حيث جعلوا العبرة في الاختصار جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، فما زال التنافس في هذا الميدان حتى خرجوا به عن حد الاعتدال إلى ما يشبه الألغاز ، فيأتي من بعده، فيتكلف في فك الرموز، وحل الألفاظ باذلا من وقته ما لوصرفه الى غيره لصار من المجتهدين او قريبا منهم، ومن الأمثلة على هذا النوع من الكتب في مذهب الشافعي كتاب الإرشاد لابن المقري، وكان من الكتب المدروسة في الحلقات العلمية في مساجدنا، فهذا الكتاب مختصر من الحاوي الصغير للقوويني الشافعي، حاول مؤلفه ان يختصره في ربع حجمه، فلم يكن أمام المؤلف حيلة لتحقيق ذلك إلا أن يجعله رموزا وإشارات، تصيب الشيخ والطلاب في محاولة فهمها بوجع الرأس، يقول المصنف في مقدمته ( حوى المذهب نطقا وضمنا، خميص من الألفاظ بطين من المعاني) ولو ان الجميع ذهبوا رأسا الى أصل الكتاب لكان ذلك أقل كلفة عليهم، وأكثر فائدة لأن المقصود هو الوصول إلى المعاني من اقرب طريق، فليست الألفاظ مقصودة لذاتها، بل هي قوالب للمعاني، ثم اننا أخطأنا فهم مقصود المؤلف في الكتاب، وهو إنما قصده في هذا الاختصار ان يسهل حفظه على الطلاب، فلا نحن حفظناه، ولا نحن استغنينا عنه بأصله، والباعث على تحمل تعب دراسة الكتاب عند الطلاب أن العرف السائد بين الطلاب آنذاك ان الذي يعرف الإرشاد يكون مهاب الجناب يحترمه الجميع، فيستميت الطالب في دراسة الكتاب من أجل الوصول إلى ذلك المقام، فيصرف فيه من الوقت والجهد ما لو صرفه لدراسة الأم للإمام الشافعي لأتى على جميعه. والخطأ في ذلك هو عدم وضع منهجية لدراسة العلوم عندنا بل الطالب يتخبط فيه، والشيخ اسير لرغبة ذلك الطالب. فنتج عن ذلك أن يكون التحصيل اقل بكثير من الجهد المبذول.
وهناك اتجاه آخر أشد تعقيدا من سابقيه يتمثل في أن يجمع المؤلف في كتاب واحد عدة مؤلفات يدمج فيما بينها بطريقة لا تخطر ببال احد في هذا العصر ، فليست الغرابة في الكتاب نوعية المعلومات الواردة فيه، وإنما الغرابة في طريقة ورودها، فحتى لا أصرف القارئ بالمقدمات عن المقاصد، فقد الف ابن المقري الذي حدثتكم عنه في السابق في كتاب الإرشاد ألف كتابا آخر لم يسبق إليه في التاريخ جمع فيه الفقه والتاريخ والنحو والعروض والقوافي على نسق واحد، فإذا قرأت الكتاب عرضا صار فقها، وإذا قرأته من أعلى الى أسفل صار فنا، وإذا قرأته من أوائل السطور صار فنا آخر، هكذا وردت المعلومات من اول الكتاب الى نهايته بطريقة تحير العقول، فلو لم أكن رأيت الكتاب بنفسي لم أكن أصدق بإمكانية وقوع ذلك.
تصوروا حجم الجهود التي بذلت في كل كلمة من كلمات الكتاب في موقعها لتكون مناسبة لكل الأوجه التي يتطلبها كل فن من تلك الفنون الخمسة، لهذا عكف المؤلف عليه لسنوات عدة حتى يرى الكتاب النور،وهذا الصنيع يدل على عبقرية فاعله بلا ريب، ولكن استفراغ تلك العبقرية في شيء كهذا خسارة للأمة، والذنب ليس للمؤلف ولكن الأمة التي لم تهتم بتلك المواهب من العقول، فلم تستثمرها فيما هو أهم من ذلك بكثير، وانا اعتقد جازما لو صرفت تلك المواهب في اختراعات حديثة لكانت كافية في صنع قنبلة ذرية في ذلك العصر، اما صرفها في أمر كهذا ثم لا يكون له في النهاية كبير معنى عند الناس غير إبداء التعجب والاستغراب ثم يكون مصيره الأهمال لهو أمر مؤسف، لأن المعلومات التي فيه معلومة متواضعة لا تتعدى ان تكون في بدايات تلك الفنون، فهي بكل المقاييس لم تكن تتناسب مع الجهود التي بذلت.
وكان الأجدر بالمؤلف في مثل هذا النوع أن يكتفي بصفحة او صفحتين للدلالة على قدرته على ذلك في باقي الصفحات، وبذلك يحصل الغرض وتسلم الجهود من الإهدار
وأوصي في خاتمة هذه الكلمة للإخوة من الدعاة والمشايخ في الدول الغربية ان يذهبوا بكتاب ابن المقري هذا – وهو مطبوع متداول – الى مراكز البحث عند الدول الغربية ويتحدوهم بهذا الكتاب إن كان أحد من أسلافهم فعل مثل ذلك.
ولا اظن ان الكتاب قابل للترجمة الى لغات أخرى على هيئته التي هو عليها لأنه يتطلب من الجهود في الترجمة مثل الجهود في تأليفه، ولا يجود أحد بذلك في هذا العصر