التصحر العقلي وتغييب الوعي . عبد الرحمن بشير
لقد عشت مع المنتوج الفكري ، والخطاب السياسي ، والمنازلات المنهجية بين العلماء والمفكرين في لحظة الصراع الإيراني – الإسرائيلي ، والذى امتد نحو أسبوعين إلا يومين فقط ، وقد هالنى ما وجدت في هذه المنازلات من غياب الوعي من بعض الوجوه الفكرية والعلمية فى العالم العربي والإسلامي ، ولم تستطع بعض المجالس العلمية إصدار بيان محكم يقول الحقيقة كما يرى من وجهة نظر شرعي متوازن ، والعجيب أن الناس ( النخب ) انقسمت عندى إلى ثلاثة أقسام :
أولا :قسم يعيش مع الأزمة بعقل مأزوم ، وهذا القسم يظهر في كل لحظات الأزمة بهذا الفهم الناتج من داخل الأزمة ، ولا يستطيع أن ينفك عن الأزمة ليرى الحقيقة من خارج الأزمة ، فنحن نعرف أن الإخوة في الكويت لم يستطيعوا فهم أزمة الخليج من أبعادها الحضارية ، ومآلاتها الاستراتيجية ، فكانوا مع الحملة التى دمّرت العراق ، وجعلت المنطقة بلا مستقبل سياسي ، وربطوا بين ما جرى لهم من مصيبة الاحتلال للكويت ، وتحرير الكويت من خلال تدمير العراق ، واحتلال المنطقة من جديد ، وهكذا عادت الأزمة من جديد فى قراءة بعض الناس ، وخاصة ممن عاش مع ما فعله النظام الإيراني مع سوريا ، واليمن ، ومن هنا ، وجدنا كبارا من العقول لم يستطيعوا أن ينفكوا من الأزمة ليتناولوا الأزمة المنهجية بعقلية غير مأزومة .
ثانيا : وجدت من يقرأ الأزمة بعقل الفقه ، والفكر الطائفي ، ولم يستطع التحرر من هذا العقل الفقهي ، فالمسألة ليست دراسة فقهية فقط ، بل هي دراسة سياسية واستراتيجية من العمق ، ولكنها لا يمكن أن تبتعد عن المرجعية الإسلامية ، ومن هنا ، رأيت بعض الناس يتحدثون عن فساد العقيدة عند الإيرانيين ، بل ووجدت من يذهب إلى أن إيران أخطر من جميع الأعداء ، ولكنهم لم يقدموا دراسات جادة تؤكد ذلك ، بل طرحوا ما صنعت إيران فى لحظات ما بعد الربيع العربي ، ونحن نؤكد بأن النظام الإيراني وقع في أخطاء استراتيجية عندما تحالف مع النظام الفاسد السوري ، وانحاز إلى بعض القوى في اليمن ، ولكن هذا الأمر شيء ، وما جرى فى المنطقة من الصراع ما بين إيران وإسرائيل شيء آخر .
لقد كنا نعيش مع الذين يقولون : إن إيران جزء من المسرحية ، ولكن هؤلاء استيقظوا من كبوتهم بعدما رأوا أن الصورايخ الإيرانية تدكّ على مناطق كثيرة من فلسطين المحتلة ، ومن هنا رأينا تهافت هذا المنطق غير المنطقي ، ومع هذا ، ما زال هؤلاء يقرؤون الواقع السياسي كما يرغبون ، ولديهم الفقه الرغائبي أكثر من الفقه الاستراتيجي.
ثالثا : هناك قسم ثالث يملك الحس الاستراتيجي ، والرؤية الثاقبة فى قراءة الوضع ، وهؤلاء يفرقون من بين ما هو لحظي ، وما بين ما هو استراتيجي ، كما يفرقون من بين ما هو مرتبط بالعقائد ، وما هو مرتبط بالوجود الحضاري ، هناك فروق أساسية ما بين إيران ، وما بين إسرائيل ، فالأولى ليست طارئة فى الساحة ، بينما الثانية طارئة فى المنطقة ، وكذلك الأولى عداوتها ليست إلا تكتيكية ، أما الثانية فعداوتها استراتيجية بعيدة المدى .
إن الناس هنا عاشوا لحظات أزمة عميقة ، والأزمة لم تكن سياسية بقدر ما كانت فكرية ، ولم تكن كذلك منبثقة من خلال الصراع ، وإنما هي عميقة فى الذات الحضارية ، ومن أهم مظاهر الأزمة :
١- التسرّع فى إطلاق الأحكام ، والخلط بين الفتاوى المحلية والعالمية ، وإخراج المسألة من الصراع الحضاري ، وجعل المشاكل كلها تدور في الحل والحرمة فقط .
٢- غياب العقل ، وبروز العاطفة فى هذه النوازل الدقيقة ، ولهذا وجدنا كثيرا من الناس يدغدغ العواطف ، ولا يتحدث عن المستقبل السياسي للمنطقة ، ولم يتناولوا فى أحاديثهم ماذا بعد إيران ؟ فالعقل السياسي مغيب فى هذه المنطقة الملتهبة ، وقد رأينا بعض السياسيين يفهمون أكثر من بعض العلماء فى هذه المسألة ( أردوغان ) نموذجا حيث استعد ، وأعدّ الجيش ، ودعا إلى اجتماع طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي .
٣- عدم القدرة فى تفكيك المسائل ، وهذه مصيبة عقلية من جانب ، ومشكلة منهجية من جانب آخر فإيران كنظام سياسي وقع منه جرائم سياسية ، والصراع بينه وبين الكيان معركة وجود ما بين المنطقة ، والكيان ، والذين لا يملكون قوة منهجية فى الانفكاك لا يمكن لهم قراءة المسألة من أبعادها المختلفة .
٤- تأثير الجمهور على النخب ، فهناك من النخب الفكرية والعلمية من يملك رؤية مختلفة ، ولكنه لا يستطيع البوح بها خوفا من الجمهور ، ولهذا فهو ساكت ، أو مع جمهور بلده ، والمشكلة أن النخب يجب أن تقود الناس ، وليس العكس ، فالوعي هو المسافة بينك وبين القطيع ، وليس من الوعي أن يتبنى المفكر أطروحات الجمهور ، فهذا ليس من الوعي ، وهو كذلك لا يصنع الوعي بهذا الفعل الانفعالي.
ماذا وراء هذه المظاهر ؟
……………… ……………
لدينا مشكلات بنيوية تحتاج إلى كشف الحسابات ، بل ولدينا قراءات في المشرق قد لا تكون لها وجودا فى المغرب ، وعند العرب حسابات مع الفرس قد لا تكون مع غير العرب ، وهناك دول في المنطق
لها أولويات ، ولكنها تجعل تلك الأولويات ضرورات للأمة ، ومن هنا ، تتحول تلك الأولويات السياسية إلى مناهج فكرية تتبنى بها مجامع علمية ، ولهذا نرى اليوم كم تحولت ( رابطة العالم الإسلامي) من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، ورأينا كيف تحولت دول كاملة من العداء الاستراتيجي للكيان إلى حليف استراتيجي له ، ورأينا تحوّل ثقافات بعض الدول من مربع الممانعة إلى مربع التطبيع ، والسبب هو أننا عشنا فى أوهام ، ولم نكن نعرف الحقائق كما هي ، ولهذا يجب كشف المستور فى هذا العالم الموصوف ( العربي – الإسلامي ) .
أولا : إن هذه المنطقة تعيش سياسيا فى لحظات السقوط لمشروع ( سايكس بيكو ) ، فقد انتهى فاعلية هذا المشروع ، ومن هنا ، يخطط الآخرون إعداد البديل ، ولأجل هذا نسمع كثيرا ( الشرق الأوسط الجديد ) وقد نسمع من الآخرين ( الشرق الأوسط الكبير ) ، ورأينا رئيس وزراء إسرائيل وهو يرفع خريطة جديدة فى الأمم المتحدة ، فهناك مشروع جديد تم تهيئته من وراء الكواليس ، ويسير التنفيذ من خلال لغات سياسية مختلفة.
ثانيا : بدأ المشروع الصهيونى يفقد قوته الداخلية ، ومناعته الذاتية ، فهو ليس جيشا يقهر ، وليس قوة أمن مخيفة للعالم ، ومن هنا يتم تخطيط مشروع جديد ، وهو أن استدامة المشروع الصهيوني يتطلب أمرين ، وهما :
١- تدمير القوة الصلبة للأمة ( إيران ، وتركيا ، ومصر ، وباكستان) كنموذج .
٢- تفتيت المفتت ، وتجزئة المجزأ ، فالعالم العربي يجب أن يتحول إلى الشرق الأوسط ، ويجب أن تقسم سوريا ، ومصر ، والسعودية ، والسودان ، والصومال ، وتركيا ، والعراق ، وإيران ، وبهذا تنتهى مرحلة الجامعة العربية ، وهي الآن تعيش فى لحظات الانعاش السياسي .
لا يمكن للكيان أن يبقى فى المنطقة إلا بعد تدمير القوى الصلبة ، وتشتيت المنطقة بشكل يمكن للآخرين التدخل بسهولة ، وهذه هو الغائب عن كثيرين من الذين يتكلمون عن الأوضاع فى المنطقة .
ثالثا : لدينا مرض فكري كبير وهو ( التصحر العقلي ) ، ومنه نتج قلة الوعي ، أو عدم الوعي السياسي ، نحن نملك فى كثير من الأحيان المعرفة اللازمة للواقع ، ولكن المشكلة عندنا هو كيف نحول المعرفة إلى الوعي ؟ وكنت أفكر كثيرا فى كيف صنع نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام الوعي فى المجتمع الأمي ؟ فقد عرفت مؤخرا أن الوعي زيادة فى المعرفة ، وليس نتيجة للمعرفة ، فليس كل عالم واعيا ، ولكن كل من له وعي فهو عالم ، وكما قال كريشتا مورتي : ( الأزمة هي أزمة الوعي ، والثورة الحقيقية هي ثورة الوعي ) .
رابعا : هناك جدار كبير ما بين العلماء والاستراتيجيين ، فالعلماء يفتون بعيدين عن الفقهاء الإستراتيجيين ، فقد رأيت كثيرا منهم يفتون بأن المعركة ما عدوين ، ونحن يجب أن لا نكون طرفا من هذه المعركة ، بينما علماء الفكر الاستراتيجي وضعوا النقاط على الأحرف ، وذكروا بأن المسألة ليست كما يقول هؤلاء ، فهم يخطئون استراتيجيا ، وكذلك ، يصبح كلامهم بلا فاعلية فى الساحة ، وفى بعض الأحيان يكون كلامهم فى غير محله ، وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله أن مآلات الأفعال يجب مراعاتها فى الفتوى ، والمآلات هنا رؤية استرتيجية ، وليس فقط كلام يقال فى البحث الفقهي .
إن الفقيه لا يفتى فى المسائل الطبية بعيدا عن رأي الأطباء ، وكذلك عن علوم الفلك بعيدا عن رأي الفلكيين ، فكيف يتكلم عن المسائل والنوازل السياسية بعيدا عن فقهاء الاستراتيجية ، ولدينا اليوم خبراء كبار فى هذا المجال ، وليس كلهم على رأي واحد فى النظر إلى إيران ، وقد وجدت الدكتور النفيسي لديه حس عدائي لإيران ، ولكنى وجدت كذلك الأستاذ وضاح خنفر لديه حس متوازن فى هذه المسألة .
نحن اليوم نحتاج إلى قراءة متوازنة كما فعل الدكتور محمد المختار الشنقيطي فى قراءاته التى حاول فيها تفكيك المسألة بوضوح ، وطرح رؤية متماسكة فى المسألة ، وحاول أن ينظر إلى المستقبل بعين ، وذكر أن منطقة الشرق الأوسط تحتاج إلى تركيا وإيران والعرب معا ، فهم اخوة فى الجغرافيا والتاريخ ، كما حاول الدكتور الريسوني قراءة الصراع من وجهة نظر مقاصدية ، واستفاد من خبرة الخبراء فى هذا المجال ، ولكي نفهم بوضوح ، يجب أن نتحرر من الفكر الآني ، ومن هيمنة ( الأزمة المحلية ) على العقل المسلم .
يمكن أن نستفيد من سورة الروم قراءة وهديا ، ويمكن أن نستخلص منها الهدي الاستراتيجي لصناعة الخريطة الفكرية للأمة ، كما يمكن لنا أن نتحرر من خلال قراءتنا لهذه السورة التعصب الأعمى ، والعيش فى داخل الأزمة طويلا ، فالمأزوم لا يصنع الحل ، بل يقدم فكرا وطرحا ينبثق من العقل المأزوم .