*القبائل الصومالية: جذور النسب وخريطة التحالفات*
*الجزء الثاني: بين الرواية الشفوية والمخطوطات التقليدية*
تُعدّ دراسة الأنساب من أبرز المفاتيح لفهم البنية الاجتماعية والسياسية والتاريخية في المجتمع الصومالي. فقد حافظ الصوماليون على أنسابهم عبر وسيلتين رئيسيتين: الرواية الشفوية المتوارثة عبر الأجيال، والمخطوطات التقليدية المعروفة محليًا باسم فَر غري. وقد شكّل هذان المصدران ركيزتين أساسيتين في توثيق الهوية والانتماء، لا سيما في ظل غياب مؤسسات أرشيفية رسمية متخصصة في هذا المجال.
في هذا الجزء، نسلّط الضوء على أهمية هذين المصدرين لفهم أوجه التلاقي والاختلاف في أنساب القبائل الصومالية الكبرى، ضمن إطار علمي متوازن.
أولًا: الرواية الشفوية كأداة لحفظ الهوية
رغم صعوبة الإحاطة الكاملة بمكانة الرواية الشفوية في هذا المقام المختصر، فإن من الضروري التأكيد على أهميتها البالغة في السياقين الصومالي والإسلامي على حد سواء.
فقد شكّلت الرواية الشفوية، على مدى قرون طويلة، العماد الرئيس لحفظ الأنساب، وتوثيق التحركات القبلية، وشرح التحالفات والمصاهرات، ورصد التنقلات الجغرافية الواسعة داخل القرن الإفريقي.
ويمتاز النظام الشفوي الصومالي بعدة خصائص فريدة:
1. الدقة في الحفظ والتسلسل
يُنقل عمود النسب بدقة متناهية عبر الأجيال، وقد يتجاوز التسلسل عشرين جيلاً، من غير الحاجة إلى وثائق مكتوبة، خصوصًا في المجتمعات الرعوية والبدوية.
2. الربط بين النسب والتاريخ الاجتماعي
تقترن سلاسل الأنساب بأحداث كبرى، مثل الهجرات، والغزوات، والتحالفات، وحتى وقائع الزواج وتوزيع الأراضي، مما يجعل النسب مرآةً حيةً للتاريخ الاجتماعي.
3. الوسائل الفنية في التلقين
تُستخدم القصائد الشعبية، والحكايات، والأغاني باللغتين الصومالية والعربية كأدوات ترسيخ فعالة للأنساب في الذاكرة الجمعية.
4. الحضور في الحياة اليومية
تُستدعى الأنساب في مناسبات الصلح، والزواج، والولائم التقليدية، للتأكيد على وحدة الأصل أو تمييز الانتماء.
ثانيًا: المخطوطات التقليدية (فَر غري) كمرجع مكتوب للأنساب
إلى جانب الرواية الشفوية، برزت المخطوطات التقليدية كمصدر مكتوب بالغ الأهمية لحفظ الأنساب. وغالبًا ما يُرجع إليها عند حصول نزاع أو التباس في هوية أحد الأجداد أو في ترتيب التسلسل النسبي، مما يجعلها مرجعًا حاسمًا في تثبيت الانتماء وضبط الأنساب.
وقد كُتبت غالبية هذه المخطوطات باللغة العربية، شعرًا ونثرًا، وتميزت بجملة من الخصائص الشكلية والمضمونية التي تجعلها مصادر موثوقة في التوثيق التاريخي والاجتماعي، ومن أبرزها:
1. توثيقٌ دقيقٌ لسلاسل النسب
تبدأ هذه المخطوطات عادةً من الجد المنتسب أو صاحب المخطوطة، ثم تمتد عبر الأجيال وصولًا إلى عمود النسب الأساسي، مع تحديدٍ واضحٍ لأهم الانقسامات داخل العشائر والفروع والبطون، مما يمنحها قيمةً توثيقية رفيعة في حفظ الأنساب ورصد تفرعاتها بدقة.
2. تعدد الأزمنة ومناطق التأليف
دُوِّنت هذه المخطوطات في عصور وأقاليم مختلفة داخل الصومال وخارجه، ورغم ذلك فإن أعمدة الأنساب الواردة فيها غالبًا ما تتطابق، كما تتشابه في الخطوط والأسلوب الكتابي؛ إذ استُخدم الحبر الأسود عادة، مع إبراز بعض الأسماء بالحبر الأحمر.
3. تشابه في الأسلوب والترتيب
رغم تنوع الكتّاب والقبائل، فإن هناك تشابهًا ملحوظًا في البنية الداخلية للمخطوطات المحلية الصومالية، مما يدل على وجود مدرسة توثيقية موحَّدة أو اعتماد على مصادر أصلية مشتركة.
4. تعدد النسخ وتواتر العمود النسبي
كثيرًا ما توجد نسخ متطابقة من العمود النسبي نفسه لدى عشائر مختلفة، مما يعكس تداولًا وثائقيًا واسعًا أو وحدة جذرية في الأنساب بين الجماعات الكبرى.
تبرز أهمية هذه المخطوطات في كونها وثائق مادية ثابتة تقابل الرواية الشفوية، التي قد تتعرض للنسيان أو التحريف. وعند وقوع اختلاف أو سقوط في عمود النسب، تُرجَّح المخطوطة باعتبارها وسيلة لضبط النسب و«قطع الشك باليقين» على حد التعبير الفقهي.
نماذج من المخطوطات الصومالية
1. *مخطوطة أنساب قبائل بني سَبَب* (الرَّحْنوين)
ورد ذكرها في عدد من المصادر المحلية، ومن أبرزها مخطوطة الشيخ حريد طريو ليبان أبولي فيذو، التي أنقلها عن الشيخ الكاتب والمؤرخ آدم سعيد. وقد ورد فيها التسلسل النسبي التالي: حريد → طريو → ليبان → أبولي → فيذو → آرك → مسوسي → علي → حسين → معلم بغذي → محمد (ريو/رحوين) → سفر → كالمجي → تلمدر → الشيخ محمد → دغل → دينسمي → عمر سَب → هيل → عبد الرحمن → محمد→ أحمد → حنبل → مهدي.
ويمثل هذا التسلسل مصدرًا ذا أهمية خاصة في توثيق نسب هذه القبائل.
2. *مخطوطة أنساب قبائل بني سِمال* .
وردت أنساب بني سِمال في مخطوطةٍ نادرةٍ للشيخ الفقيه محمود الأبغالي، صاحب المخطوطة القديمة من تفسير «الجلالين».
وكان الشيخ محمود فقيهًا وقاضيًا لجماعة الشيخ المجاهد حسن برسني ورفيق دربه المقرّب، كما جمعته به صلة نسبٍ ومصاهرة؛ إذ زوّج الشيخُ حسنٌ أخته للشيخ محمود، فأنجبت له بنتين قبل استشهاده، ولا تزال ذريتهما معروفة إلى يومنا هذا.
وقد ورد في هذه المخطوطة التسلسلُ النسبي لبني سِمال على النحو الآتي: «أبكال (علي) بن عثمان بن درندولي بن مندلوت بن هراب (إسماعيل) بن مَذْبلي بن أبكد بن برطل بن سِمعال بن سريره بن دام بن كركاته بن حاوية/هوية (واسمه أحمد) بن إرر (عبدالرحمن) بن سِمال (عثمان) بن محمد (المشهور ب -هيل) بن حنبل بن مهدي».
كما وُجدت نسخٌ مماثلة لهذا النسب منتشرة بين مختلف عشائر بني سِمال، وقد تمت مقارنة عددٍ منها بدقّةٍ لضبط الأسماء والألقاب، والتحقّق من مدى تواترها وتطابقها، الأمر الذي يعزّز موثوقية هذا التسلسل النسبي ويؤكد رسوخ تداوله في الذاكرة الشفوية والمخطوطة على السواء.
3. *مخطوطة أنساب قبائل بني الداوود* .
وردت في مخطوطة الشيخ علي بن عبد الرحمن «شيخ علي مجيرتين»، وفيها: «شيخ عبد الرحمن رضاء الدين بن الشيخ إسماعيل الجبرتي بن الشيخ إبراهيم معروف بن عبد الصمد بن محمد بن حنبل بن أحمد بن مهدي بن عبد الله بن عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب».
وقد تأكّد هذا النسب أيضًا من خلال مخطوطاتٍ أخرى متداوَلة بين المؤرخين، من أبرزها مخطوطة السلطان يوسف كينديد، والتي نقل عنها عددٌ من كُتّاب تاريخ هذه القبيلة.
غير أنَّ انتساب هذه القبيلة إلى داود بن إسماعيل الجبرتي لا يثبت عند التمحيص، كما أوضحتُ ذلك في مقالٍ سابقٍ لي بعنوان: «تاريخٌ يستحق التصحيح: التمييز بين الشيخين عبد الرحمن وداود ابني إسماعيل الجبرتي».
*ملاحظات مهمة حول الترابط النسبي بين جل القبائل الصومالية الكبرى*
بنو سَبَب (الرَّحْنوين)، فإنهم ينتسبون كذلك إلى محمد (هيل) بن حنبل، لكنهم انحدروا من فرع سَبّ، ومن ذريته تفرعت السلالة الرحنوبنية الكبرى المشهورة.
وأما بنو الدارود إلى عبد الصمد بن محمد بن حنبل بن أحمد بن مهدي، ومن ذريته تفرعت السلالة الدارودية الكبرى المشهورة.
في حين ينتسب بنو سِمال إلى الجد سِمال (عثمان) بن محمد (هيل) بن حنبل بن مهدي، ومن ذريته تفرعت السلالة السِمالية الكبرى المشهورة.
وبذلك تلتقي سلاسل أنساب هذه المجموعات الثلاث عند الجد محمد بن حنبل بن مهدي، وربما تعود جميعها إلى الجد الأعلى حنبل بن مهدي، بوصفه الأصل الجامع لهذه الفروع الكبرى.
ورغم أن هذه المخطوطات لم تُحقق بعدُ وفق مناهج التحقيق الحديثة، فإن تواترها وانتشارها الواسع يقدمان دعمًا قويًا للرأي القائل بأن القبائل الصومالية الكبرى تنحدر من أصل واحد.
وتؤكد هذه النتيجة دراسات الوراثة الجينية القومية الصومالية، التي أظهرت بوضوح وحدة الأصل الوراثي الغالب بين مختلف القبائل، مما يعزز الترابط بين الروايات النسبية المتوارثة والبحوث العلمية الحديثة.
يختنم نساخ هذه المخطوطات عاديا بتوقيع ديني مذهبي واضح، مثل العبارة المتكررة: «القرشي نسبًا، الشافعي مذهبًا»، وتُرفق بوصايا موجهة للأحفاد للحفاظ على النسب، مشفوعة بآيات قرآنية، منها قوله تعالى ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 181].
وهو ما يعكس الارتباط الوثيق بين الهوية النسبية والانتماء الديني، ويبرز البعد الثقافي الإسلامي العميق في الوعي الصومالي.
ويؤيّد هذا الطرح ما ورد في مخطوط يمني نادر بعنوان «هجرة الجزيرة في فجر الإسلام وضحاه» للمؤرخ محمد النجدي، إذ يذكر انحدار الصوماليين من عثمان بن محمد بن حنبل، المتفرّع من محمد بن عقيل بن أبي طالب، الذي هاجرت ذريته إلى شرق إفريقيا، حيث استقرّت هناك وأسهمت في تأسيس الممالك الإسلامية، مُشكّلةً بذلك العمود الفقري للحضور الإسلامي في المنطقة، كما سنبيّنه لاحقًا.
ومن خلال هذا العرض، يتّضح أن الروايات الشفوية والمخطوطات التقليدية ونتائج الدراسات الجينية الحديثة تتكامل فيما بينها لرسم خريطة نسب القبائل الصومالية الكبرى، وتؤكد انحدارها من سلالة واحدة جامعة، بغضّ النظر عن الجدل القائم حول الأصل العربي أو غيره؛ فالعبرة — كما يثبت الواقع — بوحدة الأصل وتماسك النسيج التاريخي.
وسنواصل في الجزء الثالث من هذا المقال تتبّع مسارات التلاقي الجيني الصومالي المعاصر، وربطها بموجات الهجرة والحركة الاجتماعية والسياسية التي أسهمت في بلورة القومية الصومالية الحديثة، وذلك في سبيل تقديم فهمٍ أعمق لجذور الأمة، وإبراز وحدة كيانها وتماسك نسيجها التاريخي عبر العصور.
بقلم: علي أحمد محمد المقدشي