بين الفتور والحنين: قراءة في علاقة صديق هيبي بأمه.
في قراءتي السابقة لقصة أخينا صديق هيبي -زاده الله هيبة ووهبه علما وحكما- تناولتُ ملامحها العامة، وأحاول اليوم التوقف عند جانبٍ شدّني فيها، وهو علاقته بأمه. لم يتحدث صديق كثيرا عن أمه، وإنّك لن تقف صورة واضحة لشخصيتها في كلامه، على العكس مما تجده عند حديثه عن أعمامه وعماته، بل إنّه يمرّ مرور الكرام كلّما اتصلت الاحداث بأمه. وإذا تأملنا في نشأة صديق، فربما نجد فيها على ما يضيء لنا شيئا من أسباب هذا الفتور. صديق انفصل والداه وهو طفل في عامه الثالث، وترك أمه في هذه السن المبكرة من حياته، ثم تناولته بيوت أعمامه وعماته في تربيته ونشأته.
وكان أول لقاء بين صديق وأمه وهو في سنه العاشر، ويبدو أن هذا اللقاء لم يقدر على التغلّب على الحواجز النفسية والعاطفية التي فرضتها ظروف الانفصال، ويعترف صديق نفسه وهو يتحدث عن هذا اللقاء بصعوبة التفاهم بينه وبين أمه، فلم يطل البقاء عندها، ورجع الى العيش مع عمه. وأعاد صديق سبب صعوبة التفاهم بينه وبين والدته إلى جروح سنوات الفراق، وتأثيراتها السلبية على الانسجام بين الشجرة وفرعها. انفصال والدي صديق وهو في الثالثة من عمره ترك أثرًا بالغًا في تكوينه النفسي؛ فالطفل في هذه المرحلة يكون في ذروة حاجته إلى الأمان العاطفي والاستقرار الأسري، والانفصال المبكر غالبًا ما ينتج عنه ما يُعرف بـ الانقطاع الوجداني. إذ يصبح الطفل مضطرًا إلى بناء علاقات تعويضية مع العمّات والأعمام في هذا السياق دون أن تكتمل علاقته الأصلية بالأم. ومن هنا يمكن فهم ذلك “الفتور” الذي أشرنا إليه أنه ليس جفاءً خلقيًا أو قسوةً طبيعية، بل نتيجة لتربية مشتتة في بيئات متعدّدة حالت دون ترسّخ صورة أمومية مستقرة في وجدانه.
ومما يلفت الانتباه أنه مع هذا الفتور في العلاقة، فإننا نلاحظ أنه كلّما ادلهمت من حول صديق الخطوب، وضاقت عليه الحيل، كان يلجأ إلى أمه، وكان يجد عندها عطف الأمومة. ونشير هنا إلى حدثين مهمين في حياة صديق، وكانت أمه وحدها إلى جانبه. أولاهما: لمّا عزم صديق على الذهاب الي نيروبي، وتناهى إلى سمعه أنباء عن امكانية فرصة هجرة عند عمه هناك، فلم يجد من يوفر له أسباب الرحلة غير أمه التي استدانت له مبلغا من المال يمكنه الوصول إلى مبتغاه. والثانية لما قرر على الهجرة إلى أوربا عبر الصحراء هرع مرة أخرى إلى أمه، فكانت له نصيرا عند الشدة لا يخذله، وعضدا عند الحاجة، يشد أرزه، ويعينه على تحقيق أحلامه، مع قصر اليد، وقلة الحيلة، وضعف الحال.
وهذا كله يدلنا على أن صديق مع اعترافه بصعوبة التفاهم مع والدته إلا إنّه كان يدرك عمق حبها له، فكان يهرع اليها في أوقات العسرة والشدة، وكانت ملجأه الوحيد، حين يجدّ الجدّ، فلم تخزه في موقف، ولم تخذله في طلب. في النهاية، علاقة صديق بأمه هي مرآة لعلاقة الإنسان بالجذور، قد نبتعد ونختلف ونحاول أن نتحرر من تأثير الأصل، لكننا حين تضيق بنا الأرض نعود إلى المنبع الأول، نعود إلى الأم بوصفها رمز الحضور الوجودي الأول والأخير. هذه العلاقة، بتوترها ودفئها الخفي، تمنح القصة عمقًا إنسانيًا كبيرًا، وتحوّل تجربة صديق من مجرد سيرة فردية إلى رحلة بحث عن الذات والأصل والحب غير المشروط.
















