حكايات صومالية قديمة (2)
البُنّ الصومالي: عبقٌ، وبركةٌ، ونشوةُ روح
حكايتنا اليوم عن إحدى طرق تحضير البن الخاصة في الصومال، والتي ارتبطت، على وجه الخصوص، بالمناسبات الدينية والاجتماعية والثقافية أيضا.
تقول الرواية إن البن، الذي تعود أصوله إلى الجوار الصومالي (إثيوبيا، ثم انتقل منها إلى اليمن)، كان معروفًا لدى الصوماليين كنبتة عطرية، شأنه شأن اللبان، لكنه لم يدخل ضمن قائمة مشروباتهم إلا في وقت متأخر، ويُرجح أنه في القرن الثامن أو التاسع الميلادي.
وعندما وصل البن وطرق تحضيره كمشروب إلى الصوماليين، أدرجوه ضمن تجارتهم، وكانوا من أوائل من قام بتصديره إلى الخارج، إلى آسيا وأوروبا، إلى جانب اللبان الذي يُزرع بكثافة في الصومال ويُصدَّر منذ أيام الفراعنة.
ولأن الصوماليين القدماء كانوا معروفين بحبهم للعطور والروائح الزكية، أضافوا إلى البن القرنفل والهيل والقرفة لتحسين مذاقه. وقد كانت هذه الخلطة تُحضَّر في البداية خصيصًا للعلماء والضيوف المهمين، حتى أصبح البن لاحقًا مشروبًا شائعًا.
كما ابتكر الصوماليون طرقًا خاصة لتحضير البن، من أبرزها قلي حبوب البن بالسمن أو بزيت السمسم (المعصرة)، ما يمنح البن رائحة بخورية مميزة. وتقول الحكاية إن رائحة البن المقلي تصعد إلى السماء السابعة وتصل إلى الملائكة، وعندها يكون هناك اتصال بين السماء والأرض وتُستجاب الدعوات في تلك اللحظة.
وغالبًا ما تُرافق هذه الطريقة قراءة سور قصيرة من القرآن، وأدعية وابتهالات خاصة، بالإضافة إلى مدائح نبوية، وصلوات، والدعاء بالرحمة للأموات، ويُهدى ثواب البن وقراءة القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، ومشايخ الطرق الصوفية، ومعلمي القرآن.
وفي العادة، يُحرق اللبان خلال المناسبة ليضيف جوًا روحانيًا مميزًا. وتُتّبع طقوس خاصة عند تحضير البن المقلي، تبدأ بكسر بعض الحبوب كإذن للشروع في التحضير، ويتولى هذه الخطوة كبير العائلة، أو أحد أفراد آل الشيخ (قبيلة الشيخال المعروفة بمكانتها الدينية)، أو أحد السادة من آل البيت إن صادف حضوره المناسبة.
وفي بعض المناطق الصومالية، يُعتبر البن المقلي أول ما يُقدَّم للضيوف خلال جلسات الصلح بين المتخاصمين، سواء كانوا أفرادًا أو عشائر، طلبًا للبركة والتوفيق، ثم تُقدَّم المأدبة أو الذبائح. قال لي أحد الرواة ما معناه أن بركة البن التي تحل على الحاضرين تسهل الوصول الى حل بين المتخاصمين.
أما طريقة تناوله، فتبدأ باستنشاق رائحته، ثم يُدهن بها الكفان والوجه وبقية اليدين والقدمين. وبعض المسنين يصبون قطرات من الزيت المقلي بالبن في وسط الرأس، ويجدون في ذلك لذّة روحية ونشوة خاصة.
ويُقدَّم البن المقلي في إناء خشبي خاص يُسمى “كُرْبِن”، تتوارثه العائلة لما يعتقدون فيها من البركة. وشخصيًا، أحتفظ بـ”كُرْبِن” عمرها قرابة 130 عامًا، تعود لجدي الثالث (موسى حلني)، وقد وصلتني بالوراثة ولا تزال تستخدم حتى اليوم. نفعنا الله ببركتها. آمين.
ملاحظة : في اللغة الصومالية يسمي البن “قهوة” إذا كان مشروبا ويسمى ” بن” إذا كان مقليا بالزيت. مع اختلاف يسير في بعض اللهجات.