صرخة وفي.
لقد قرأت للأستاذ القدير والكاتب المبدع وصاحب الصوت المسموع والكلمات المعبرة في الفضاء الإعلامي الأخ المحترم (عبدالرحمن راجي) كلمات تبعث على القلق في مقال شارك به جمهوره بالأمس، وكان المقال تعبيرا صادقا عن االحال المتردي والأوضاع المأساوية التي تعيشها واحدة من أهم ولايات الوطن في غربها وشرقها وشمالها والجنوب؛ كلمات المقال كلها كانت كوخز الإبر بالقلب المتعب بأمراض الواقع المرير، كلمات وكأنها كالسهام المنطلقة من قوس قريب سددت مباشرة نحو القلب، بل كأن مطلق تلك السهام لم يبال بعدها بطريقة نزعها فمزق بها عروق وأوردة القلب وهو ينزعها بلا رحمة ودون مبالاة.
كانت كلمات الأستاذ – وفعلا هو أستاذ جيل وناصح أمين – تعبيرا عن الواقع المأساوي وكان واصفا بدقة عما تلقاه جسد بونتلاند الطري من سهام غدر من أقرب أقرباءه وهم سياسيوه وقواد دفته فأصبح يصيح هذا الجسد كما تفضل ألأستاذ بأعلى صوته يا أهلي إنزعوا تلك السهام من ظهري وقلبي وكأن المتنبي عني به حين قال:
رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتى … فؤادي في غشاءٍ من نبال
فصرتُ إِذا أصابتني سهامٌ … تكسَّرَتِ النصالُ على النصالِ
إن هذا التصوير البليغ للواقع المرير والوضع الخطيروهذه الصرخة المدوية في أذن الغافل والنائم لتشبه صرخة النبي الأمين – صلى الله عليه وسلم – لقومه حين قال لهم بعد أن جمعهم عند صفح جبل الصفا “إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد” ومعلوم أنه سيكون من القوم من سيقول بعد كل صيحة حق من وفي: (تبا لك ألهذا جمعتنا) ولكن الحقيقة تبقى وحدها العلم الخفاق واللواء المرفوع وسينهدم على الغافلين كل ما يرونه صرحا شامخا ليستقظوا بعده على جسد سليمان الميت التي ما دل القوم على موته إلا الدودة التي اكلت منسأته.
بناء عليه:
أولا: لا بد أن يصطلح الناس مع الكلام الحق الواضح وألا يعموا بصائرهم عن الوضع القائم بكل أركانه أمامهم ولقد قلت من زمان أن مشكلة أهلي في بونتلاند أنهم لا ينكرون منكرا سياسيا بل يصفقون لصاحب هذا المنكر ويساندونه ويشدون على أزره ويتهكمون على من ينبههم إلى أفعاله الشنيعة، وهذا والله أس البلاء، ومصدر كل خراب، فبلاد تساس بعقلية الرجل الواحد ورغبته لحري بها أن تتنكب الطريق أو تسقط في الهاوية أو يتفرق شملها ويذهب ريحها ويتفكك بنيانها.
ثانيا: إن المال والمنصب مغريان للمرء حتى أن بعض الناس في الزمن الغابر إدّعوا الألوهية عندما إجتمعت في يدهم قوة المنصب والمال فلقد قال فرعون عما حكاه عنه الله: (ونادى فرعون في قومه أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفألا تبصرون) فكان لمعان تلك القوة بين يديه سبيلا لاحتقار الناصحين والسخرية بهم قائلا: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) ولقد أخبر القرءان أيضا أن ما أغرى به إبليس- لعنة الله عليه- أبانا آدم – عليه السلام – وأزل به قدمه كان ملكا لا يبلى وخلودا لا يفنى قائلا: (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل ادلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) فاجتماع تلك القوتين في يد رجل واحد دون وازع من دين أو من قانون أو من قوة أخرى لهو بلاء عظيم وسبيل إلى الطغيان وطريق إلى الهلاك وهرولة نحو هاوية سحيقة من الفشل والخراب.
ثالثا: ولهذا لا بد من إقامة المؤسسات الرادعة والمسؤولة، التي لا يمكن ان يتخطى رقابها رئيس ولا مرؤوس، إذ بدونها يكون الطريق مفتوحا على مصراعيه لكل فاسد أو مفسد لكي يغرف من المال العام أو يجرفه فقد أصبح الناس في هذا الزمان لا يبالون بأي جراب خرج المال وإنما يراكمون بعضه فوق بعض حتى يركم المال جميع خازينيه في جهنم لأن من أخذ المال من حرام محقت بركة ماله ووقيل له يوم القيامة: (وقفوهم إنهم مسؤولون).
رابعا: إن بونتلاند بلاد مترامية الأطراف كثيرة الخيرات واعدة بكل جميل لكنها لم تجد شخصا مخلصا في كل تاريخها وإنما تعاقب عليها عقليات فاسدة، وتجار في ثوب رجال سياسة، وقد يقول قائل: إنك تظن سوءا بمن مات من رجال هذه الولاية؟ وأنا أقول: يا أخي أعذرك فأنا لست هنا لأغتاب ميتا أو أعاتب غائبا وإنما أصف حالا كانت تتهاوى به الولاية منذ زمن بعيد، فمن يتذكر كيف كانت الشاحنات الكبيرة تحمل البضائع من ميناء الخير في بصاصو وكيف كانت بوصاصو وجهة الصوماليين من كل ولاية وإقليم حتى لكأنه كان يذاعب أحلام الذين يتوقون أن يرسموا طريق الخروج من المتاهات التي سقطت فيها الجمهورية أن بونتلاد هي هذا الطريق أو هي النفق الذي يتسلل منه النور على الجمهورية الميتة، وكل من عاصر تلك الأزمنة يعرف أن بونتلاند لم تحظ بقائد صادق ورائد موثوق يستطيع أن يبني على الفرص المتاحة ليقود أمتة إلى واحات ظلالها وارفة ويكوّن منها نموذجا تنسج على منوالها باقي أقاليم الصومال.
وتعقيبا على صرخة الوفي ابن الوفي أقول:
إننا يا شبابها أمل لها والمثل الصومالي يقول: ( نحن أعيان الأمة إذا تركنا الدلال والتمثيل) ويقول أحد الشعراء:
شباب قنع لا خير فيهم *** وبورك في الشباب الطامحينا.
فالطموح هو اللواء الذي يجب أن نرفعه حتى نقتحم تلة العدو ونأخذ حصنه مهما وصلت درجة صلابته، فقد قيل:
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ** ومدمن القرع للأبواب أن يلجا.
ولا بد أن نطوف كلنا حول كعبة الإنجاز ونسبح في بركة العلم ونتخطى الفتور القاتل ونحسب لكل خطواتنا حسابها ونقلل التعاسة ونرنو إلى المعالي فإن الله يحب أعالي الأمور ويكره سفاسفها وممتهنها، إننا يا شبابها من أمة تقول في سنة نبيها ومعين إسلامها حكمة نبوية رائعة: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم) ثم ذكر أن تلك الشجرة هي النخلة اي أن المسلم لا ينتهي خيره، ونحن قد أكثرنا القعود وتناسينا الواجب فتسلط على الطريق كل من لا يحسن السير فورثت أمتنا هذا الوبال الذي ترونه.
في الختام:
كلمات (راجي) صرخة من إنسان يحس ويشعر ويرى ولا بد من الشعور حتى تحيى وتعيش فإذا فقدت ذلك الشعور فليكبروا عليك أربعا فحياتك لا معنى لها، وقد قيل: إن أولى عللامات الشفاء هي الشعور بالمرض، وإذا كان (راجي) وأمثاله يشعرون ويحسون فإما أن نحس معهم ونستمع إلى صوت ضميرنا القادم من أعماقنا فذلك هو الطريق وأولى علامات الشفاء وطريق الرجوع من التيه المستحكم على العقول، أما وإن تهكمنا عليه وعلى أمثاله وسدينا الآذان بالأصابع وتغشينا بثياب الغفلة عن دعوة نوحنا الذي ينوح ونصح ناصحينا الأمناء فلتستعدوا فسيأتيكم يوم لا ينفع معه مليون صرخة من مثل التي خرجت عن فم فرعون حين أيقن على الهلاك وهو من قال: (– حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين) ولم يقل إلا الله فهو لا يعرف الله ولم يكلف نفسه عناء البحث عنه ومعرفته وإنما قال (إلا الذي آمنت به بنوإسرائيل) وكيف له أن يعرف وهو من ردد الدهر كله (ما علمت لكم من إله غيري) وهو من إتهم المصلحين من أنبياء الله والآمرين بالقسط من الناس بأنه يخاف أن يبدلوا دين رعيته أو أن يظهروا في الأرض الفساد وهي نفسها التهم التي تكال للناس التي تقول إن وضعنا لا يسر صديقا ولا يقلق عدوا، ومن يصم آذانه اليوم عن صوت الناصحين المصلحين سيستيقظ بعد ضياع الفرص ولات حين مناص ولات حين ندم أيضا.
أ.محمد نظيف محمد (شوكاني)
باحث دكتوراة في االإدارة التربوية .
















