لا تنمية مع التخلف السياسي .عبد الرحمن بشير
( أولوية الفكر على السياسة ، والعلم على العمل )؟
……………………………………………………………
القبلية نوعان ، قبلية منهجية ومبرمجة ، وقبلية طبيعية وفطرية ، الأولى مصطنعة ، والثانية اجتماعية ، ومن العقل أن يفهم الإنسان أن القبيلة مظهر من مظاهر الحياة عند الشعوب التى لم تضع بعد رجلها على الحداثة ، ولَم تدخل عالم الصناعة ، ولكن تكون مقبولة عند الشعوب ما قبل الحداثة مثل العرب والشعوب القاطنة فى القرن الأفريقي وأشباهها .
المشكلة تكمن فى القبلية المنهجية ، أو الممنهجة ، وهي التى تصنع فى كواليس المخابرات ، وتُشغل بها الشعوب ، وتُصنع لأجل الإلهاء من القضايا المصيرية ، فهذه القبلية ليست طبيعية ، بل هي نتنة كما وصفها نبي الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وتعتبر من أسباب التخلف السياسي ، ذلك لأن القبيلة كظاهرة ليست مظهرا سياسيا فى الدولة ، بل هي مظهر اجتماعي ، ويمكن التجاوز عنها ، ولكن حتى اليوم ليس من الممكن تجاوز الدولة كمظهر سياسي .
هناك خطوط حمراء لمن يريد أن يكون له مكان تحت الشمس ، وهو أن يتجاوز المراهقة السياسية ، واللعب بالنار ، واستخدام القبيلة لأجل إلهاء الناس عن الحقوق ، فالقبيلة مشكلة عندما تكون ممنهجة ، وهي طبيعية عندما تستخدم فى مكانها ، وتقسيم المقسّم ، وتجزئة المجزأ سياسة متبعة من المستبدين ، ولا يعرف المغفلين التعامل مع هذه السياسة .
ذهبت الصومال ، وضاعت بسبب القبلية ، فأصبح السياسيون رؤساء عشائر ، وليسوا سياسيين ، وصار رجال الدعوة مراجع قبلية ، وليسوا علماء دين ، ورجال فكر ، وقالوا نتعامل مع الواقع القبلي ، فأصبحوا الواقع النتن .
إن السياسي الناجح يأتى لتغيير الواقع ، والعالم الحقيقي يسعى لتعديل الواقع ، والمشروع الدعوي يمنح الناس رؤية بها يتجاوزون عن مشاكل الواقع ، ولكن أن يصبح الداعية والسياسي والعالم من الواقع القبلي ، بل ويفتخر بذلك ، فهذه ردة فكرية ، ورجوع نحو الوراء .
إن المشروع القبلي صناعة المخابرات فى العالم الثالث ، واليوم تواجه جيبوتى طوفانا من هذا النوع ، والسبب هو أن النظام يخطط فى إلهاء الناس عن الجوع ، والفقر ، والتعليم المتدني ، وغياب الخدمات الصحية ، والتحديات السياسية والمالية ، ولهذا تجد بعض الأغبياء يحتمون وراء جدران القبائل وهم مكشوفى العورة ، وتصيح كل قبيلة بأنها هي الأفضل ، وأرقى ، وأهم ، وأنها هي الأصل ، وغيرها طارئ ، ولا معنى لهذه الكلام فى عالم ما بعد الدولة .
قالوا قديما : فرّق تسد ، وهذه العبارة صحيحة ، وتعمل عند الشعوب المتخلفة ، كم مرة رأيت مثقفا يحمل الحذاء لجاهل ، لأنه وزير قبيلته ، وكم مرة قابلت مثقفا يمدح جاهلا ، لأنه يمثل بالنسبة له رجل قبيلته فى الدولة ، وحينها عرفت أن الناس فى بلادنا نوعان ، عامي ، وشبه عامي ، ولا وجود بعد لطبقة المثقفين ، ذلك لأن من طبيعة المثقف الرفض ، وصناعة البديل ، وليس من طبيعته أن يكون من الخريطة الفكرية فى الواقع .
القبلية تكون خطيرة جدا حين تصبح مظهرا سياسيا ، وتكون أخطر حين تختفى وراء الدين والفكر ، وقد لاحظت قريبا من بعض الخطاب الدعوي إلهاء الناس عن القضايا المصيرية ، لا حديث عن الفقر المدقع ، وعن الغنى الفاحش ، ولا حديث عن الظلم السياسي والمالي ، ولا عن غياب العدل ، بل الحديث كله عن العبادات فقط ، وعن الدعوة إلى الشوارع ، وهذه تعتبر فى هذا الزمن لعبا ولهوا كما قال عبد الله بن المبارك قديما .
لا تنمية مع القبلية السياسية ، ولا مع القبلية الدعوية ، ولا مع القبلية الفكرية ، يجب أن يتطور المجتمع بقوة الفكر ، ولا يمكن له ذلك إلا إذا نجح المثقفون أن يتحرروا من التخلف الفكري والعلمي ، وأن يواجهوا المجتمع بقوة الفكر لأجل إقناعه ، لا بقوة السيف والمنشار لأجل وضعه فى سلّة التخلف ، فإن المثقف الذى يعيش مع المجتمع كما هو بدون أن يظهر لهم ضعفهم ، فهو ينافقهم ، ومن هنا يجب عليه أن يتطوّر هو ليطوّر غيره .
إن العيش فى التخلف السياسي يجعل الناس لا يشعرون مدى التخلف الموجود عندهم ، والسبب هو أن التخلف ذهني قبل أن يكون واقعا ، فليس من الذكاء أن تذهب إلى بلاد الغرب المتقدم ، وتعيش فى ذهنية عالم التخلف ، أنت ومن يعيش فى بلاد التخلف سواء ، المهم أن تقع الثورة فى الذهن ، فلا تنمية بدون بدون تغيير فى الذهن نحو الأفضل ، ولا يمكن تغييرا مع بقاء أسباب التخلف .
كن أخى المثقف ما شئت ، ولكن لا تكن ناطقا رسميا لقبيلتك ، فأنت بهذا السبب خرجت من حركة التاريخ ، فالتاريخ ليست لصالح القبيلة ، لأن القبيلة من الماضى ، وليس لها مكان فى المستقبل ، وتحرّر من رق القبلية ، وعش فى عالم الأفكار ، وبهذا تخرج من الضيق ، وتكون من جزءا من المستقبل ، فكّر وأنت إنسان ، ولا تفكر فقط فى صندوق القبيلة ، وليس من المصلحة العامة أن تعيش فى الصندوق ، وأنت تملك أن تعيش فى خارج الصندوق ، كن ابن آدم ، ولا تكون ابن مجموعة فقط .
أخى المثقف ، تحرر من ( الأنا ) فهي قاتلة ، الأنا فى الفكر ، والجماعة ، والمذهب ، والقبيلة ، كن أنا الإنسان ، أنا المثقف ، أنا الداعية ، أنا المفكر ، أنا الفيلسوف ، أنا رجل أعمال ، إنا رجل دولة ، كن ناجحا فى حياتك الفكرية والفقهية والدعوية ، جدد ذاتك ، وخطابك ، ولغتك ، وأسوبك ، حاول أن تتطور باستمرار .
أخى المثقف ، لا تكن متعلما لأجل الشهادة ، فكّر ما بعد الشهادة ، ماذا تعمل فى مجال التغيير ؟ ماذا تقدم لأمتك ؟ لا تكن متعلما لأجل العمل فقط ، فالعلم أكبر من العمل ، فهو موّجه للحياة ، وكان الشافعي رحمه الله من أعظم المتعلمين فى زمنه ، وأبدع علما كاملا سمي فيما بعد علم ( أصول الفقه ) ، ويعتبر اليوم هذا العلم منهج البحث فى الوصول إلى الحقيقة ، ومع هذا بقي فقيرا ، لا تكن متعلما لأجل المنصب ، فالمنصب يحتاج إلى العلم ، وليس العالم محتاجا للمنصب ، فقال يوسف عليه السلام ( اجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم ) .
أخى المثقف ، انظر دوما إلى المستقبل ، لأن مكانك محجوز فى المستقبل ، وليس فى الحاضر ، ولا فى التاريخ ، الناس يتناولون أفكارك بعد الموت ، فهذا هو المستقبل ، خطط لعالم أفضل ، وناقش الأفكار بشجاعة ، ولا تخف من النقد ، فمن أصبح كبيرا ، تناولته الألسنة ، ومنهم من يحبه ، منهم من يبغضه ، ومنهم من يشك فيه ، وتلك طبيعة الحياة ، فمن أراد أن يكون صغيرا ، فعليه أن يقبع فى بيته ، ويلعب مع أولاده ، ولا يخرج من منزله إلا للصلاة والتسوق .
أخى المثقف ، لا تتعصب لوطنك فقط ، بل اعمل له وفيه ، فالوطن مكان خُلقت فيه، وهناك فرق بين التعصب والحب ، الأول ذميم ، والثانى فطرة ، بل الأول تخلف ، والثانى إنساني ، كن إنسانيا ، ولا تكون حمارا ، لأن الحيوانات لا تعيش بعيدا عن الحظائر .
أخى المثقف ، تعال إلى كلمة سواء بيننا ، العمل لأجل الإنسان ، وليس لأجل القبيلة فقط ، تعال نعمل معا لأجل الوطن ، لأن الوطن ليس لقبيلة معينة ، وتعال نعمل لأجل المستقبل ، لأن المستقبل للعلم والفكر ، وتعال نعمل معا لأجل بناء عالم الأفكار ، لأن الفكر أبقى من كل شيئ .
أخى المثقف ، عليك بالقراءة المنهجية ، فلا تهتم كم قرأت ؟ بل ماذا قرأت ؟ ولا تهتم ماهي شهادتك ؟ بل ماذا فهمت ؟ قال الفيلسوف المصري الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله : لو قرأت سابقا كتاب ( الإسلام بين الشرق والغرب ) للأستاذ على عزت بيحوفيتش لاختصر لى الطريق ، كم هو عظيم ! لأنه كان مثقفا ، وبهذا أثّر الساحة الفكرية بقوة ، وما زال .
أخى المثقف ، لا تكن بوقا من أبواق النظام وأنت لا تدرى ، أو تكون بوقا من أبواق النظام العالمي ، وأنت تدرى ، أو لا تدرى ، أو أن تكون رجلا من رجال المخابرات ، وأنت تحسب أنك مستقل عنهم ، فهؤلاء لديهم شطارة فى صناعة الميدان ، ويتركون للناس العمل فى الميادين المتاحة لهم سلفا ، فالمثقف الحقيقي يعرف من أين يؤتى إليه ، ومن وراء العمل السياسي المتاح ؟ ولماذا الآن يعملون فى محاربة التنظيمات الفكرية والسياسية ؟
أخى المثقف ، عش كما تريد ، ولكن بعقل وحكمة ، وعش مع من تريد ، ولكن بحرية وفهم ، وعش فى المكان الذى تريد ، ولكن بخبرة وحنكة ، ولا تعش كما يراد لك ، فالعقل هبة الله لك ، والدين رسالة الله إليك ، فلا تجعل عقلك يخاصم رسالة الله ، ولا تجعل رسالة الله تقتل عقلك ، فلا خصومة بينهما ، فالمسلم الحقيقي كما علمنا الغزالي رحمه الله لديه حكمة فى المواءمة بينهما ، وله حكمة فى فهم الدور لكلٍّ واحد منهما .
أخى المثقف ، لا تمنح عقلك لمن يتلاعب به ، ولا تجعل مصيرك فى يد من يريد أن يجعل حياتك رهينة بيده ، ولا تلعب فى ميدان لا تحسن السباحة فيه ، فاقرأ كثيرا ، ولكن اجعل قراءتك مكثفة بشكل غير عادي ، فالكثرة شيئ ، والتكثيف شيئ آخر ، فالأولى كمية ، والثانية نوعية ، والأفضل أن تكون القراءة كثيرة وكثيفة فى آن واحد ، حينها تفهم شيئا مما يجرى فى العالم .
لقد فهمت الغرب كثيرا حين قرأت للمفكر المصري عبد الوهاب المسيري ، وللباحث الفلسطيني العالمي ادوارد سعيد ، وللمفكر العالمي إسماعيل الفاروقي ، وللفيلسوف المسلم جارودي ، وللمسلم المهتدي محمد أسد ، وللمسلم السياسي الألماني مراد هوفمان ، وللعالم الهادئ على عزت بيجوفيتش ، فالذين يريدون فهم العالم كما هو ، فلا بد منهم لذلك الإحاطة بالمسألة من عيون مختلفة ، ومن دراسات متباينة ، أما الذين يريدون فهم الناس كما يريدون ، وليسوا كما تم ، وقراءة الحياة كما يرغبون ، وليست كما هي، فهؤلاء حظهم من المعرفة ستكون ضحلة إن لم تكن قاتلة .
أخى المثقف ، هناك من يقرأ كتاب الله لأجل القراءة ، ومن يحفظه لأجل الحفظ ، ولكن كلام الله أعظم من ذلك كله ، فالحفظ وسيلة ، والقراءة وسيلة ، بل وحتى الفهم وسيلة ، فالهدف هو تحويل كلام الله إلى مشروع عمل ، فالوحي يصنع الفرد المسلم الناجح ، والعائلة المسلمة المتفاهمة ، والمجتمع المسلم المتحضر ، والدولة المسلمة العادلة ، والعالم الإسلامي الناتج ، ولكن ماذا نصنع فى عالم متخلف ، وفيه آلاف من البشر يقرؤون كلام الله بلا فهم ، وآلاف من الخطباء يتكلمون ، ولا يعملون ، وآلاف من الناس يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فقد حان وقت التساؤلات ، لم نحن نعيش فى ذيل الأمم ؟ ولم لا نتقدم ؟ ولم لا نستخرج من كلام الله ، وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يخرجنا من الأزمات ؟ هنا الامتحان .