موسيقى الأنفاس وصفعة اليقظة.
في أيام العطلة الصيفية، حيث لا يتهيأ الأطفال البكور إلى المدرسة، يكون ابني الصغير، وعمره ثلاثة أعوام أوّل من تأخذه أمّه إلى فراش النوم في الساعة الأولى من الليل، وتتأخر باقي العائلة ساهرة إلى نصف الليل أو قريب منه، وأكون أنا غالبا آخر من يأوى إلى فراشه، ولكنّي وإن كنت آخر من أوى إلى مضجعه، فإني أول من يطير عنه نومه، ويستفيق من غيبوبته، ربما يكون للسنّ أثر في هذا الأمر، وكلّما زاد سني نقص نومي،
زيادة شيب وهي نقص زيادتي … وقوة عشق وهي من قوتي ضعف
ولكني مع صحوي الباكر تعوّدت أن أبقى بعض الوقت متمدّدا على السّرير، أمتّع أذني بهذه الأنفاس المتناغمة المتجاوبة المنبعثة من أرجاء البيت في أمن وسكون ودعة، ولأنفاس الأحباب في مثل هذه الأجواء موسيقى عذبة في الأذن، ولذة روحية في القلب لا تعادلها لذة. وبينا أنا في هذه الحالة البرزخية، يفيق ابني الصغير، وقد أخذ راحته من النوم، والقوم في البيت صرعى، كأنهم سكارى، لا تسمع لهم إلا نفسا عميقا متناغما متجاوبا، فيكدّر عليّ صفو موسيقى الأنفاس، ويرسل رسائل متدرّجة، تبدأ من التنبيه على الذات، وتنتهي إلى التهديد على تطيير النوم عن الآماق، فإذا لم يسعفه ذلك كله على لفت الانتباه إليه، خرج من عشه، واستعان بما لديه من أداوات الاستغاثة والصراخ والبكاء، فحينئذ، أدركت أن السيل قد بلغ الزبى، فأنسلّ من فراشي؛ إشفاقا على إزعاج تلك الأنفاس الطيبة، وخوفا على بثّ الرّوع في هذه الأرواح الآمنة، فأخرج به إلى غرفة الجلوس، أعدّ له ولنفسي استقبال هذا اليوم الجديد، ثم أحضر له ما وقعت عليه عيني من أدوات اللهو والتسلية، فأشاركه اللهو بعض الوقت، حتى إذا استأنس واطمأنّ انسللت خفية، وانتهزت هذه الفرصة للقراءة، أرقبه بعين وأقرأ بأخرى، بل ألحظه بعين القلب، وأقرأ كتابي بعين البصر. ومن أطرف ما وقع لي معه اليوم، ونحن في هذه الحالة التي وصفتها توّا، وهو منصرف إلى لهوه، وأنا منكبّ على كتابي، اِذْ جاءني ووقف بجانبي، فشكا حاجته إلى الحمام، سمعت قوله، ولكنّني كنت مستغرقا في قراءة نهاية نصّ استعذبته، ولم أطق التوقف عن قراءته، وحدّثت نفسي: أن أكمله قبل الاستجابة إلى طلبه، ويبدو أن حالة ولدي لم تكن تقبل التأخير، فكرّر عليّ الطلب، وألحّ في السؤال، ولكنّي – ويا لشقوتي – لم أنتبه إلى صرخاته وحاجته الملحّة. فلمّا رأى تغافلي واستغراقي في كتابي، عزم على الانتقام، فوجّه لي على حين غفلة صفعة، أطارت النظارة من عيني، والكتاب من يدي. فلمّا أفقت من هول الضربة، والتفتُّ إليه، قال لي بلهجة الغاضب الحازم: خذ لى إلى الحمام الآن، فلم أتمالك من الضحك، ولكنّه ضحك المصدوم المندهش المعترف بذنبه، فأخذته على عجل. تعلمت من الصفعة درسين: أولاهما: إنّ التأديب لا ياتي دوما من الوالد، وإنما يأتي أحيانا من ولدك الصغير، إذا أضاع الوالد واجبه ومسؤوليته تجاه ابنه، وثانيهما: إنّ الإنسان -مهما كان ضعيفا -ليدرك في شيء من حقوقه بالعنف، إذا تعذّر على دركه بالرفق واللّين.