“*هندسة العبث*”
تُكتب الآن *أخطر سردية انفصالية في الصومال* وعندما أقول ذلك لا أستند على تصريحات سياسية كيدية أو على زلات لسان عاطفية، بل على *قراءة عميقة للخطوات التي تسير بها هذه الرواية*.
في البداية هذه الدعوة الانفصالية لا تعتمد *على أحداث ووقائع ومظالم لتبني سرديتها خاص بها،* لأنها تعلم أن الأحداث لا تخلق تفسيرات متماسكة تكون محل الإجماع، *بل يوجد دائما وجهات نظر، وزوايا رأي تكون محل خلاف*، لذلك هي تعمد اولاً الى بناء سرديتها ومن ثم تفسر الأحداث على ضوئها، وتحاول قدر الإمكان ان يتم ذلك بالوسائل والقنوات الرسمية*.
على سبيل المثال؛ كنت من الذين شاركوا في عامي (2022 م- 2023) في كتابة وتصحيح بعض مناهج التعليمية في ولاية بونت لاند الصومالية، *فكان النقاش الساخن* الذي بدأ قبل انضمامي ولم ينته حتى بعد رحيلي هو النقاش *متعلق دائما بشعار (دولة بونت لاند)* الموجود في أعلى أغلفة الكتب المنهجية، فالأغلبية الساحقة *ترفض هذا الشعار جملة وتفصيلا وتصر على استبدال كلمة دولة ب (ولاية*)، وفي خط مواز لهذا الرفض كان المسؤول السياسي في كل زيارة رسمية لنا يبلغنا بلغة حاسمة غير قابلة للنقاش أن ذلك من اختصاصات السلطة السياسية التي سوف تناقش الموضوع من خلال أدواتها الخاصة. *وبتلك الطريقة تم تحييد الصوت الرافض*.
وخرجت الكتب إلى المدارس *لتكون (دولة بونت لاند) أول شيء يتعلمه الطفل البريء*، على رغم *أنف المعلم* الذي لا يملك من الحيلة إلا أن يُذكر التلاميذ أنهم جزء من وطن أكبر، وبعد *مدة يبدأ سجال من نوع آخر بين تلميذ ينطلق بما هو مكتوب وملموس بين يديه ومعلم يتحدث من الذاكرة فقط*، وبذلك نجحت الدعوة للمرة الثانية على *تحييد المعلم*.
أما الوجه الاخر لهذه الدعوة الانفصالية الأكثر عمقاً هي *بأنها ليست عاطفية بكائية* بل أنها *تتعطى مع مخاوف الموجودة* عند الجيل الأكبر سناً الذي عاصر الحروب الاهلية بطريقة مُقنعة *على أنها الاحتمال الأكثر قدرة* على تحقيق الأمان لهم ولأبنائهم ، وعندما *تُخاطب الاجيل الأصغر سناً فإنها تقدم نفسها على انها الحقيقة الوحيدة الموجودة* بين يديهم، والذي دعم هذه السردية أكثر *موقف الدولة الصومالية التي لم تقدم نفسها *كدولة متمكنة*، بل قبلت بدور *الشريك السياسي (الثانوي*) الذي يغضب ويمنع شعبه، وبهذا الموقف المتراخي من الدولة الصومالية *تمكنت الدعوة الانفصالية تأسس أرضية استقلالية* بدون دموع او صخب، وقدمت نفسها على أنها حق طبيعي ومن يريد أن يثبت غير ذلك فليتقدم.
الأخطر من ذلك هو أن *القائمين بالدعوة الانفصالية* في (ولاية بونت لاند) غير مُقتنعين بها*بل يرون فيها وسيلة ضغط سياسي لشركائهم في الدولة الصومالية، وأنها مجرد ( لعبة سياسية) فقط*، لكن *الجيل الأصغر سن الذي يخضع لعملية (غسل الأدمغة*)، لن يراها لعبة عندما يكون *في موضع اتخاذ القرار غدا*، ولا يستخدمها كورقة ضغط وإنما يرها *حق وجودي مشروع* يُجند فيها جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة *لتحقيق العبث الذي بدأ من عند الكِبار (لعبة) وانتهى عند الصغار (حقيقة) وعند العدو (فرصة).
*د.فاطمة حوش