مصر: تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
تمهيد:
زيارتي لمصر الحبيبة علقت في ذهني ووجداني ويتملكني الشوق بالعودة إليها مرات ومرات، وبصورة عفوية تذكرتُ بالأبيات الشعرية التي استهل بها طرفة بن العبد معلقته المشهورة:
لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ
تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ
معالمها وبنيانها وأجمل ما فيها من إنسانٍ مصري راقٍ كلها بمثابة وشم على الذاكرة حفرتها في الأعماق الذكريات الجميلة والمواقف الإنسانية وشاءت مشيئة الله وقدره أن تحملني رحلتي في هذا العام 2025م مرتين إلى أرض الكنانة، حيث تتراءى أمامي كلمات القرآن الكريم: ﴿ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين﴾.
ومثل كل ناشئ في المجتمعات الإسلامية – وخاصة المجتمع الصومالي – الذي يبدأ طريقه من حفظ كتاب الله في الخلاوي والدكس، كان أول ما تعرفت عليه من البلدان مصر: بتاريخها الضارب في القدم، بالفراعنة وأهراماتهم، وبنيلها الفياض، وبأنبيائها الذين تعاقبوا عليها، وبالحق والباطل وهما يتصارعان على أرضها. ومع مرور الأيام يكبر المرء، فيتصل ماضيها بحاضرها اتصال الروح بالجسد.
وقد تربيت على أدب شعرائها الكبار؛ أحمد شوقي، البارودي، حافظ إبراهيم، ومحمود غنيم، وقرأت لكتابها العباقرة؛ العقاد والمنفلوطي ورأفت باشا. ومن قرّائها وعلمائها نهلت من أصوات الحصري والمنشاوي، ومن مواعظ الشعراوي وكشك. وها هي مصر في وجداني منذ الصغر حتى اليوم.
ولا يفارقني أن أترحم على أستاذنا الجليل زكريا محمود عيسى – رحمه الله – الذي غرس فينا حب العربية ومصر وأهلها، ويكفي شاهداً حيّاً على ذلك أخي الدكتور الوزير عبد الفتاح نور أشكر.
مصر في مرآة التاريخ والحاضر
من يطأ قدمه القاهرة – أو كما يقول أهلها “وسط البلد” – تعود به الذاكرة إلى عصور الإسلام جميعاً: من ولاية عمرو بن العاص، إلى مقامات آل البيت؛ الحسين والسيدة زينب، إلى العصر الأموي فالعباسي والفاطمي والأيوبي والمملوكي، ثم العثماني، فالباشوية والخديوية، وأخيراً الاستعمار الفرنسي والإنجليزي، وصولاً إلى الدولة الحديثة.
كل عصر ترك بصمته على هذه الأرض، حتى غدت مصر متحفاً مفتوحاً للتاريخ.
من معالمها: جامع الأزهر، مقام الحسين، شارع المعز، خان الخليلي، مقهى نجيب محفوظ، إلى جانب الكورنيش “ممشى أهل مصر” الذي أعاد للنيل بهاءه. وما شدني في الأزهر حلقات العلم في أرجائه؛ صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، سوداً وبيضاً والصفر، وأجانب جاءوا من أطراف الدنيا لغرض السياحة والتفرج، الأزهر ما زال، وسيبقى إلى يوم الدين، منارة تهدي البشرية وتنشر العلم.
انطباعي عن مصر
كثيراً ما ظلم الإعلام صورة مصر، لكن الواقع كان أصدق. رأيت بأم عيني طيبة الناس، تدينهم الفطري، تسامحهم، حسن استقبالهم للضيف كائناً من كان. في حديثهم اللين، وفي تعاملهم الظريف والمجاملة اللطيفة “يا باشا يا جدع”، يبعدك عن غلظة الطبع وخشونة البداوة.
أما العمران، فهو حديث آخر. من القاهرة الجديدة الى العاصمة الإدارية الجديدة إلى “مدينتي” التي تذكرك بأحياء استوكهولم، إلى الكباري والطرق التي تشق القاهرة وتربط أطرافها. نهضة عمرانية مدهشة في عقد واحد لم أرَ مثلها حتى في تركيا ولا بعض عواصم الخليج وشرق أفريقيا.
مصر في منظورها الإقليمي
مصر قلب العالم العربي، تطل على البحرين الأحمر والمتوسط، وتجاور فلسطين؛ بؤرة التاريخ والدين. وهي بثقلها السكاني، ومؤسستها العسكرية المجربة، ومنارتها العلمية، دولة محورية لها اعتبارها عند العدو قبل الصديق.
وأنا على يقين أن بشائر المستقبل لمصر، ولأمتنا العربية والإسلامية ولأفريقيا، أعظم من المحبطات التي نراها اليوم.
مصر والصومال: جذور ممتدة
منذ القدم كان للصومال صلة بمصر: حضارياً وتجاريّاً منذ عهد الملكة الفرعونية حتشبسوت، وعلمياً في القرون الوسطى، إذ كانت مصر منهل المعرفة ومعبر الحجاج الصوماليين إلى الأقصى والحرمين.
وفي العصر الحديث، وقفت مصر سنداً للصومال في مواجهة الاستعمار، واحتضنت أبناءه الضباط الذين سطروا البطولات. وظلت القاهرة موئلاً للصلح بين الفرقاء، وملتقى للطلاب الصوماليين عبر المنح الأزهرية والجامعية.
السفير الصومالي في القاهرة
قد يوفق الله رجلاً فينجز ما عجز عنه غيره أعواماً. هكذا حال سعادة السفير علي عبدي أواري، سفير الصومال ومندوبها الدائم لدى الجامعة العربية.
نجح في فتح أبواب مصر للجواز الدبلوماسي الصومالي دون تأشيرة، وسعى بجد لتسديد اشتراكات بلاده المتأخرة لدى الجامعة منذ أواخر عهد سياد بري، مما مكن الصومال من استعادة حقه في الترشيح للمناصب عربيا.
ومما كان له أثر عظيم في تقارب الشعبين الصومالي والمصري، أن فُتح المجال الجوي الصومالي أمام “مصر للطيران”. فصارت أجنحتها البيضاء تحمل أبناء الصومال من جديد إلى سماء القاهرة، كأنها تجدد خيوط الوصل بين الضفتين. وأصبح مطار القاهرة الدولي محطة اللقاء والتواصل مع العالم الواسع، وبوابة نحو أوروبا وأمريكا حيث تنتشر جالياتنا ومغتربونا.
وقد وجدت عند السفير حفاوة استقبال ورعاية للجالية، خاصة الطلاب والمرضى، حتى صار موضع ثنائهم. وقد تشرفت بلقائه في سفارتنا بالقاهرة برفقة صديقي الأخ إسماعيل معلم، الذي تربى بين أهل مصر حتى حسبوه واحداً منهم، فوجدنا عند السفير من الطيبة والكرم ما يليق بدبلوماسي محب لوطنه.
هذا ما حملته الرحلة من مشاهد وانطباعات؛ ومهما كتبت فلن أحيط بمصر حقها. لكن حسب القارئ أن يرافقني في “رحلة بلا تذكرة”، يأخذه قلمي إلى أرض الكنانة، حيث يلتقي الماضي بالحاضر، والتاريخ بالحياة.
الاستاذ/ ليبان أحمد شريف
المدير العام لمركز القرن الأفريقي للتنمية والبحوث،والدراسات
القاهر: مصر