تقرير من إعداد: أحمد محمود جيسود:
يُعد الاستعمار الأوروبي في أفريقيا من أكثر الفترات تعقيدًا وظلمًا في التاريخ الحديث، حيث جرى تقسيم الأراضي ورسم الحدود بشكل عشوائي وتعسفي، دون احترام الهويات الثقافية والقومية للشعوب الأصلية. من أبرز نماذج هذا الظلم التاريخي ما وقع في مقاطعة شمال شرق كينيا ذات الأغلبية الصومالية، حيث تجاهلت بريطانيا حقوق السكان المحليين. منذ استقلال كينيا عام 1963، شهدت مقاطعة شمال شرق كينيا مظلومية تاريخية، تمثلت في التهميش والعنف الذي مارسته الدولة الكينية ضدها، بعدما احتج سكان المقاطعة على إلحاقهم قسرا بكينيا.
نسلط الضوء على أبرز الانتهاكات والمجازر التي وقعت في عقد الثمانينات في مقاطعة شمال شرق كينيا التي تركت أثراً عميقاً على المنطقة، بالبحث في خلفياتها وأسبابها، بالإضافة إلى تأثيرها على السكان في المقاطعة مع التركيز على الجانب الإنساني والاجتماعي.
عاش الصوماليون في كينيا، خاصة في المناطق الشمالية الشرقية مثل: غاريسا وواجير ومانديرا، تحت سياسات تمييزية لفترة طويلة. وكانت تشمل فحوصات مشددة للحصول على بطاقات الهوية الوطنية، مما أدى إلى اعتبار العديد منهم مجرد لاجئين بالرغم من أنهم مواطنون كينيون. وقد أثر هذا التمييز على قدرة شريحة واسعة منهم في الوصول إلى الخدمات الأساسية، مثل: التعليم والرعاية الصحية.
تعود معاناة المواطنين من مقاطعة شمال شرق كينيا إلى حقبة الاستعمار البريطاني، فزيادة على الانتهاكات التي ارتكبتها وشملت إحراق القرى وتهجير السكان، كوسيلة لفرض السيطرة، وإخماد التحركات الشعبية. وشهدت منطقة شمال شرق كينيا، التي يقطنها غالبية من الصوماليين، تاريخًا طويلًا من العنف الممنهج من قبل السلطات الكينية، يمكن تلخيص أبرز الانتهاكات التي حدثت في مقاطعة شمال شرق كينيا في النقطة أدناه.
مذبحة مالكا ماري
وقعت مذبحة مالكا ماري في مدينة “ملكّا ماري” الواقعة في أقصى شمال محافظة منديرا في كينا، في أواخر سبعينيات القرن الماضي على طول الحدود الكينية الإثيوبية، لا تزال ملابساتها غير واضحة، وأن القوات أو الميليشيات الإثيوبية أحرقت مركبة عسكرية كينية، وردت كينيا على ذلك بسياسة انتقامية، استهدفت مواطنيها بسبب سياسة تقوم على عدم التفريق الصوماليين أينما كانوا، وأنهم جميعا على شاكلة واحدة ما زالت هذه الفكرة قائمة وحية إلى الآن.
شهدت منطقة شمال شرق كينيا، التي يقطنها غالبية من الصوماليين، تاريخًا طويلًا من العنف الممنهج من قبل السلطات الكينية
وفقا لروايات السكان المحليين، قام الجيش الكيني باعتقال أكثر من مائتي رجل، وإعدامهم بالحجارة. كما كان يُؤتى بالشخص مكبّل اليدين ومعصوب العينين، ويُجبر على وضع وجهه على حجر معدني.
شهدت مقاطعة شمال شرق كينيا في ثمانينيات القرن الماضي بدورها سلسلة من الانتهاكات الجسيمة تعرض فيها السكان المحليون لمجازر دامية وأعمال عنف مروعة، أثرت على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة، والتي كانت في إطار صراعات متعددة الأبعاد شملت النزاعات القبلية، والتوترات السياسية.
حرق مدينة غاريسا
تُعد حادثة حرق مدينة غاريسا عام 1982 واحدة من أبشع الانتهاكات التي تعرض لها المواطنون الصوماليون في كينيا، حيث شهدت المدينة حملة عنف وقمع ممنهجة، أسفرت عن دمار واسع وخسائر بشرية جسيمة، في ظل توترات عرقية وسياسات تمييزية استهدفت السكان الصوماليين بشكل خاص.
شهدت مدينة غاريسا مأساة كبيرة عندما قامت القوات الكينية بحرق المدينة، في حادثة أثارت موجة من الرعب والدمار بين السكان المحليين. تسبّب هذا الحريق الواسع في خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، مما ترك آثارًا عميقة على المجتمع، وأدى إلى نزوح أعداد كبيرة من السكان.
نفذت قوات الحكومة الكينية هذه المذبحة بحجة أنها كانت تطارد مجرم يدعى “عبدي مدوبي”، كما اشعلت النيران في منطقة بولا كرتاسي Bulla Kartasi)) السكنية، حيث قتلوا العديد من السكان واغتصبوا النساء. واحتجزوا السكان قسرًا في مدرسة ابتدائية لمدة ثلاثة أيام، دون توفير طعام أو ماء لهم، أسفرت هذه المذبحة عن مقتل أكثر من ثلاثة ألف شخص، مما ترك أثرًا مأساويًا عميقًا في المنطقة.
تُعد هذه الحادثة من الفصول السوداء في تاريخ غاريسا، وتعكس تصاعد التوترات السياسية والأمنية في تلك الفترة، ولم تتوقف الجرائم والمذابح ضد الشعب بهذا الحد، بل طالت الأطفال والنساء والشيوخ، وامتلأت المستشفيات بالمصابين، فيما تُرك الكثيرون تحت الأنقاض دون أي دعم أو إنقاذ، أن عدد الضحايا وصل إلى أكثر من 3 ألف شخصًا.
مجزرة واغالا
لم تتوقف الجرائم والمجازر التي تستهدف المدنيين في مقاطعة شمال شرق كينيا عند هذا الحد، فقد انضافت إلى سلسلة الانتهاكات التي طالت المدنيين الأبرياء، واقعة قرب مدينة وجير في شمال شرق كينيا عام 1984 عرفت باسم مجزرة واغلا، خلال فترة حكم الرئيس الكيني السابق دانيال أراب موي، شنّت القوات الكينية حملة مداهمات واسعة استهدفت المنازل والمتاجر والشوارع والمدارس، وحتى المستشفيات بحجة البحث عن أسلحة غير مشروعة لدى السكان المحليين. أسفرت هذه الحملة عن تجميع آلاف الأشخاص في مهبط الطائرات المحلي بضاحية تُعرف باسم “واغالا” (Wagalla)، بدأت قوات الجيش بممارسة صنوف شتى من العذاب والاضطهاد، إذ جُرّد المعتقلون من ملابسهم، وحُرموا من الطعام والماء، وتُركوا على حالهم لقرابة خمسة أيام، تحت لهيب الشمس نهارًا وبرودة الليل قارسًا، وعندما ضعف المعتقلون ولم يعودوا قادرين على الوقوف أو الحركة، بدأ الجنود بإطلاق النار عليهم بشكل عشوائي، فقتل منهم من قُتل، ومن نجى من الرصاص مات لاحقًا نتيجة لقسوة الظروف الطبيعية.
واغالا وهو الاسم الذي يسمى لاحقًا بالمجزرة التي اشتهرت في التاريخ بهذا الاسم، وقد راح ضحيتها أكثر من خمسة آلاف شخص، غالبيتهم من عشيرة داغوديا (Degodia)، على يد الجيش الكيني، وتُعد هذه المذبحة من أبرز نماذج العنف الممنهج الذي استهدف هذه العشيرة.
بعد مرور واحد وأربعين عاما عادت القضية للتداول في الأوساط الإعلامية، حيث اعترفت الحكومة بمسؤوليتها عن هذه المجزرة، ولكن بعدد قليل (نحو 40 شخصاً)، والإقرار سيد الأدلة، وأعلنت أنها مستعدة لتقديم عوض مالي عن الأضرار لأهالي الضحايا، غير أنّ القضية لا تزال في المحكمة.
يقول الناشط الحقوقي ال محمد عبد النور (معلم دايو): “إن المجزرة كانت عملا متعمدا، حيث تم احتجازهم في المطار العسكري دون طعام أو ماء لمدة خمسة أيام قبل تنفيذ عمليات الإعدام الجماعي، هذه صورة من الإبادة الجماعية، لن ننس ولن نسامح”، معتقدا أنها كانت جزءا من سياسة ممنهجة تهدف إلى تطهير عرقي.
اعترف رئيس كينيا، أوهورو كينياتا لأول مرة، في عام 2015، بحدوث انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ووقوع مجازر ضد المواطنين الكينيين في فترات مختلفة من تاريخ البلاد، وقدّم اعتذارًا رسميًا نيابة عن حكومته والحكومات السابقة عن الأخطاء والمآسي التي ارتكبها الحكومات ضد أطياف من الشعب.
قال الرئيس أوهورو كينياتا خلال كلمته في البرلمان حول حالة الأمة، إن الوقت قد حان لوضع حد للماضي المؤلم للبلاد. وذكر العنف الذي حدث بعد انتخابات 2007-2008، ومجزرة 1984 التي راح ضحيتها مئات من الصوماليين الكينيين، والقتل الغامض إلى جانب مظالم تاريخية أخرى. وطلب من وزارة المالية إنشاء صندوق بقيمة 10 مليارات شلن كيني (110 ملايين دولار) لاستخدامه خلال السنوات الثلاث القادمة لتحقيق العدالة التصالحية.
وكان تقرير لجنة الحقيقة والعدالة والمصالحة في كينيا قد أوصى بأن يعتذر الرئيس للجمهور خلال ستة أشهر من استلامه للتقرير، رغم إقرار لجنة الحقيقة والعدالة والمصالحة بإنشاء صندوق تعويضات، إلا أن أهالي الضحايا لم يتسلّموا أي تعويضات حتى الآن.
يحرص أهالي وأصدقاء ضحايا المجزرة واغالا على تنظيم فعالية سنوية لإحياء الذكرى، تتخللها مسيرات ووقفات احتجاجية للمطالبة بالعدالة والإنصاف، وتأكيدًا على حقهم في العدالة. تتضمن هذه الفعاليات عادةً مسيرات صامتة ووقفات احتجاجية تُرفع خلالها صور الضحايا ولافتات تطالب بكشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين. كما تشهد الفعالية كلمات لذوي الضحايا وممثلين عن منظمات حقوقية، تؤكد جميعها على استمرار المطالبة بإنصاف المتضررين وضمان عدم تكرار مثل هذه المآسي.
بالرغم من المعاناة الكبيرة التي يعاني منها المواطنون الصوماليون في مقاطعة شمال شرق كينيا إلا أن هناك مساعي لتحسين أوضاعهم، رغم استمرار هذه التحديات الكبيرة. فقد شهدت السنوات الأخيرة زيادة ملحوظة في تمثيل المواطنين الصوماليين في المناصب السياسية المحلية والوطنية في كينيا، ما ساهم في تعزيز مشاركتهم في اتخاذ القرارات التي تؤثر على مجتمعاتهم.