المناضل الصومالي، ابن أوغادينيا، رجل صاحب همةٍ وعزيمةٍ نادرة، جرب كل مجالات الحياة، ولم يستسلم أبدًا. لم تضعفه الصعاب، ولم تكسره المحن، بل كان يرى في كل فشل خطوة نحو نضجٍ جديد، وفي كل تجربة بابًا لمعرفةٍ أوسع.
صاحب حكمة ونكتة وظرافة، ومن أبرع من رأيت في سرد القصص والحكايات. أعجبتني صراحته وصدقه، وحديثه المجرد من الفخر والغرور والمجاملة، فقد قال الأشياء كما يراها دون زيادة أو نقصان، بصدق البدوي وصفاء الصومالي الأصيل.
تحدث عن مسيرته التعليمية ونشأته الأولى، وعن محاولاته المبكرة للالتحاق بالتجارة. وتناول ذكرياته مع كرة القدم، وكيف مُزقت أمامه نصفين بالسكين حتى يتوقف عن لعبها، وعن مطاردة معلم الخلوة القرآنية لهم وهم عراة في أحد الأحواض، قائلًا إن تلك المواقف تترك جراحًا مؤلمة في قلب الطفل الصومالي.
كما تحدث عن حياته في القرية، وعن احتراق كميات كبيرة من السكر، مما جعل أطفال القرية يأكلون السكر كما يشاؤون. وذكر أنه كان مساعدًا لمعلم الخلوة القرآنية، فدعا له بالخير، وألقى له التحية رغم قسوته، قائلًا إن تلك القسوة كانت جزءًا من نهج التعليم قديمًا، حيث كان الضرب وسيلة للتربية والانضباط، لكنه سامحه وقال: المسامح كريم، معترفًا بأنه كان معلمًا مخلصًا في نقل العلم إلى طلبته.
ومن الطرائف التي رواها، تركُه المدرسة بعد تمزيق كرة القدم التي كان يحبها، ثم مجيء معلم الخلوة إلى البيت فجأة وضربه ضربًا مبرحًا، وأجبره على العودة إليها، غير أن الطفل أصر على رفضه. فقالت عمته للشيخ:
> “دعه شيخي، فما خرج من أهلنا قط عالم ولا شيخ.”
انتقل من بيتٍ إلى بيت، فعاش في كنف عمه، وتربى زمنًا في بيت عمته، ثم عاد إلى أمه بعد أن تجاوز العاشرة. عمل وهو في الثانية عشرة من عمره بائعًا متجولًا، وباع السجائر واللوز والبطيخ، كما عمل في السقاية وبيع الصابون في مدينة قبر دهري (Qabri Daharre).
ثم سافر إلى كينيا بأموال اقترضتها والدته لتساعده في تحقيق حلمه بالسفر، وهو ما يدل على عظمة الأم الصومالية التي تضحي لأجل أبنائها. هناك، التحق بمدرسة للعلوم الشرعية، وعمل مؤذنًا في أحد المساجد، وعاش مع عمه فترةً من الزمن.
وفي سن الثامنة عشرة، أحبَّ مطلقة كانت تحسن إليه وترعاه، فأراد الزواج منها، لكنها رفضت لأنها كانت تراه كأخٍ صغير. كان حبًا نقيًا ترك في قلبه أثرًا عميقًا، حتى أصيب بالملاريا – كما قال – لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أن ما ألمّ به لم يكن إلا داء العشق.
وبعد فشل حبه الأول، قرر الهجرة إلى أوروبا بطريقةٍ غير شرعية، باحثًا عن بدايةٍ جديدة تُنسيه خيباته وتفتح له أبواب الأمل. وقبل أن يبدأ رحلته، رأى فتاة يعرفها وتعرفه، ففاتحها بالزواج بعفويته الصومالية الصادقة، فقبلت على الفور. كان زواجًا سريًا بسيطًا، لكنه يعكس جرأته، وحبه للحياة، واتخاذه قراراته دون تردد.
رحلته إلى أوروبا
كانت رحلته إلى أوروبا مليئة بالمخاطر والمفاجآت.
بدأها من كينيا، ثم عاد إلى إثيوبيا، ومنها انتقل برًّا إلى السودان، حيث عاش سرًّا في سكن الطلبة بجامعة إفريقيا العالمية، ذلك الصرح العلمي الذي احتضن كثيرًا من الطلبة الصوماليين.
ثم واصل رحلته إلى ليبيا عبر الصحراء الكبرى، مرتديًا الجلباب السوداني متخفيًا عن الأنظار. هناك، عاش تجارب مريرة وذكريات مؤلمة لا تُنسى. فقد كانت الصحراء امتحانًا قاسيًا في الصبر، وكان تعامل بعض الليبيين مع المهاجرين الأفارقة مشوبًا بالعنف والعنصرية.
وقع في قبضة إحدى الدوريات العسكرية الليبية، وسُجن مع رفاقه من المهاجرين الصوماليين مدةً تتراوح بين سبعة إلى عشرة أيام. وهناك، عمل ترجمانًا بين الأسرى الصوماليين وجنود الجيش الليبي بفضل معرفته باللغات.
ومن أكثر المواقف تأثيرًا في رحلته، دفاعه عن فتاة صومالية من مدينة بلدوين، بعد أن حاول أحد المهربين الليبيين التحرش بها. تصدى له بشجاعة، ودافع عن شرفها حتى نجا الجميع. وعندما وصلوا إلى طرابلس، جاء عم الفتاة وقال له:
“أنت بطل، وحقك علينا كبير، وأعرض عليك الزواج من إحدى ابنتي هاتين مكافأة لك على شهامتك.”
تحدث بعد ذلك بإسهاب عن العنصرية في ليبيا ضد أصحاب البشرة السمراء، واصفًا إياها بأنها تشبه تلك التي كانت سائدة في جنوب إفريقيا ضد الأفارقة يومًا ما.
ثم واصل رحلته عبر البحر مع مجموعة من المهاجرين في قارب صغير، يواجهون الأمواج العاتية والرياح والمد والجزر، بين الخوف والرجاء، والحلم والنجاة. كانت تلك الليلة من أعظم محن حياته، لكنها أيضًا كانت مفتاح تحوّل كبير في مسيرته.
ولنا في الحديث بقية…
الأستاذ: عبدالرحمن راغي علي


















