انتخابات مينيابوليس.. معركة بين جيلين ورؤيتين لمستقبل المدينة
=====
مينيابوليس – ولاية مينيسوتا:
تشهد مدينة مينيابوليس واحدة من أكثر الانتخابات البلدية سخونة في الولايات المتحدة هذا العام، ليس فقط بسبب حدّة المنافسة بين المرشحين، بل لأنها تعبّر عن تحوّل أعمق في البنية السياسية والاجتماعية للمدينة التي أصبحت رمزاً للتحولات الأمريكية في العقد الأخير.
ويتواجه في هذه المعركة جاكوب فري، العمدة الحالي الذي يمثل التيار الليبرالي التقليدي في الحزب الديمقراطي، وعمر فتح، عضو مجلس شيوخ ولاية مينيسوتا المنتمي إلى التيار التقدمي اليساري، وأحد أبرز الوجوه السياسية الشابة من أصول صومالية في البلاد.
لكن خلف هذا الصراع الانتخابي، تختبئ قصة أوسع عن مستقبل المدن الأمريكية، والتوازن بين الاستقرار القديم والدعوات إلى التغيير الجذري.
أولاً: النظام الانتخابي.. فرص متكافئة وتحديات معقدة.
وتجري الانتخابات وفق نظام التصويت التفضيلي (Ranked Choice Voting)، الذي يسمح للناخب بترتيب اختياراته من بين ثلاثة مرشحين.
هذا النظام يجعل النتيجة النهائية أكثر تعقيداً، إذ قد يفوز المرشح الذي لا يتصدر الجولة الأولى، إذا حصل على نسبة كبيرة من الأصوات الثانية والثالثة.
وقد اتخذ المرشحان ديفيس وهامبتون خطوة استراتيجية بإعلان دعمهما لعمر فتح في المراحل اللاحقة، وهو ما منحه زخماً جديداً وقدرة على استقطاب أصوات غير مباشرة من خصوم فري.
ثانياً: عمر فتح.. صوت الجيل الجديد والعدالة الاجتماعية
ومنذ دخوله مجلس شيوخ الولاية عام 2020، برز عمر فتح كأحد رموز الجيل التقدمي في الحزب الديمقراطي.
سياسته تنطلق من رؤية اجتماعية واقتصادية قائمة على العدالة الطبقية والمساواة في الفرص، وقد نجح في تمرير تشريعات مؤثرة، مثل:
1- مجانية التعليم الجامعي لطلاب الأسر محدودة الدخل.
2- تشريعات للحد من وفيات الفنتانيل عبر الاستخدام الآمن لأدوات الفحص.
3- قوانين لحماية حقوق السائقين والعمال وتثبيت الحد الأدنى للأجور.
المرشح فتح يتبنى بشكل صريح توجهات الاشتراكيين الديمقراطيين في أمريكا (DSA)، وهي حركة سياسية تسعى إلى توسيع دور الحكومة في تقديم الخدمات العامة، وتحدي هيمنة رأس المال الكبير على القرار السياسي.
هذه الرؤية جعلت منه رمزاً لشريحة الشباب والمهاجرين والطبقات العاملة، الذين يرون فيه وجهاً جديداً يعبر عنهم بعد سنوات من التهميش.
ثالثاً: جاكوب فري.. العمدة الذي يواجه تحدي الإرث والواقع
وفي المقابل، يمثل جاكوب فري التيار المعتدل داخل الحزب الديمقراطي، وقد نجح خلال فترتين متتاليتين في الحفاظ على استقرار نسبي في إدارة المدينة، رغم الاضطرابات الاجتماعية التي أعقبت مقتل جورج فلويد عام 2020.
لكن فري اليوم يواجه تحدياً غير مسبوق:
فخطابه الذي يركز على الاستمرارية والإدارة المتوازنة أصبح أقل جاذبية في مدينة تتغير ديموغرافياً بسرعة، حيث تزداد فيها نسبة الشباب والمهاجرين والناخبين من الأقليات.
ويحاول فري الاستفادة من دعم رجال الأعمال وبعض المجموعات المحافظة التي تخشى من التوجهات اليسارية لفتح، كما تلقى دعماً غير مباشر من جماعات ضغط مثل AIPAC ودوائر قريبة من التيار الجمهوري، في مفارقة سياسية نادرة داخل مدينة تميل عادة إلى اليسار.
رابعاً: البعد الأيديولوجي والبعد الهوياتي
الانتخابات الحالية لا تُختزل في سباق انتخابي عادي، بل تحمل أبعاداً أيديولوجية وهويّاتية عميقة:
المرشح فتح يمثل تياراً يرى أن الوقت قد حان لإعادة توزيع السلطة والثروة، وإصلاح نظام الأمن، وجعل المدينة أكثر عدلاً وإنصافاً.
وفري يمثل التيار الليبرالي الذي يدافع عن التدرج والإصلاح من الداخل دون هزّ التوازنات القائمة.
الجدل حول مواقف فتح من الحرب على غزة زاد من حدة الانقسام، إذ اتهمه خصومه بالعداء لإسرائيل، في حين رأى مؤيدوه أن موقفه الإنساني من القضية الفلسطينية يعكس شجاعة سياسية نادرة.
خامساً: الشباب يحسمون الاتجاه
ويُتوقع أن تشكل أصوات الشباب والطلاب العامل الحاسم في تحديد النتيجة.
هذه الفئة، التي لم تكن ناشطة في الانتخابات البلدية السابقة، أصبحت اليوم أكثر وعياً وتأثيراً بفعل وسائل التواصل الاجتماعي والوعي السياسي الجديد.
وقد ركّز عمر فتح حملته خلال الأيام الأخيرة على الجامعات والمدارس، في محاولة لحشد هذه الكتلة لصالحه.
سادساً: مآلات محتملة وقراءة مستقبلية
وتبدأ عملية فرز الأصوات في الثامنة مساءً بتوقيت مينيابوليس (الخامسة صباحاً بتوقيت الصومال)، ومن غير المتوقع إعلان النتيجة النهائية بسرعة نظراً لطبيعة النظام الانتخابي.
لكن أياً تكن النتيجة، فإن انتخابات مينيابوليس تمثل لحظة مفصلية في السياسة المحلية الأمريكية، لأنها تعكس الصراع بين:
جيلٍ يريد أن يُعيد تعريف العدالة والمواطنة،
ونخبةٍ تخشى من المجهول القادم باسم التغيير.
وإذا نجح عمر فتح، فسيكون أول عمدة من أصل صومالي في تاريخ المدينة، وهو انتصار رمزي يتجاوز الجغرافيا والسياسة المحلية، ليؤكد أن أمريكا تعيش بالفعل عصراً جديداً تتشكل فيه معادلات القوة من القاعدة إلى القمة.
خلاصة
تُظهر انتخابات مينيابوليس أن التحول السياسي في المدن الأمريكية لم يعد مجرد نقاش فكري بين اليمين واليسار، بل أصبح صراعاً بين رؤيتين للمستقبل:
رؤيةٌ تسعى إلى المحافظة على النموذج القائم، ورؤيةٌ جديدة يقودها جيل متنوع يؤمن بأن العدالة الاجتماعية ليست شعاراً انتخابياً، بل مشروع حياة.
الشاب عمر فتح، سواء فاز أو خسر، فقد نجح بالفعل في إعادة تعريف السياسة المحلية، وأجبر المؤسسة الحاكمة على مواجهة الأسئلة التي تهرب منها منذ عقود: من يملك المدينة؟ ولمن تُبنى قراراتها؟
أما جاكوب فري، فإن قدرته على الصمود في وجه هذا المدّ التقدمي ستحدد ما إذا كانت مينيابوليس قادرة على التوفيق بين الاستقرار والتغيير، أم أنها تقف على أعتاب مرحلة سياسية جديدة كلياً.
وفي الحالتين، تبقى هذه الانتخابات مرآة لتحولات أعمق في المزاج الأمريكي، ورسالة بأن جيل المهاجرين والشباب لم يعد مجرد جمهور انتخابي، بل أصبح فاعلاً حقيقياً في صناعة القرار.



















