أعظم القصص إلهاماً وأثراُ في النفس هي التي تمر علينا في أيام الطفولة، فهي تحمل من المعاني التي لا ينتبه لها الكبير لكنها تُرافق الصغير ما تبقى من حياته.
أذكر أنه قد زارنا في المنزل صديق والدي وهو ياباني يُدعى “سومو”، وقد أحضر معه هديه من اليابان وهي عبارة عن نوع فاخر من البخور الياباني، وكان العم سومو وهو يقدم الهدية، يشرح لوالدي القيمة الصحية والنفسية التي سوف تجلبها رائحة البخور في المنزل لذا يطلب منهما تعليقها في مكان تصل رائحتها للجميع، وبعدها بأيام بدأت أمي تعترض على هذه الرائحة الغريبة وهمت بإنزال الهدية، رفض والدي بحجة أنه يجب أن نتعود على الروائح التي يعتقد الآخرين أنها جميلة حتى نفهم لماذا يروها جميلة.
لا أبالغ أذا قلت أنني أدين لهذه العبارة الكثير، واعتبرها ركن أساسي من فلسفتي في الحياة فقد حررتني من معارك التي لا طال منها، أما صاحب عبارة فقد جمع الكثير من الروائح المتضادة، واختار أن يسير بجانبها، فهو رجل عملي إداري بدرجة احترافية، عرف الهجرة مبكراً، صاحب علاقات واسعة، مهندس زراعي، خريج جامعة أوكلاهوما الأمريكية، يتقن الإنجليزية أكثر من العربية والصومالية، يعمل بين رياض وامستردام، سلفي الفكر والانتماء، وقيادي حركي متحمس، جعل من منزله في مدينة الرياض مساحة دائمة لاجتماعات السنوية والشهرية والاسبوعية لرفقاء الدرب، ومن أشهر الرفقاء حول أبي الشيخ عمر فاروق رحمة الله، الشيخ محمد هادي حاج محمد ” muxumud” رحمه الله ، الشيخ علي ورسمي رحمه الله، الشيخ د. عبد القادر محمد عبدالله رحمه الله، الشيخ علي وجيز، الشيخ محمد عبدي أمل، شيخ محمود عيسى محمود، الشيخ محمد إدريس أحمد وغيرهم من عُمَدَاءُ الفكر السلفي في الصومال، وهو ايضاً الابن البار لأم صوفية مُخلصة لصوفيتها لم يستطع يوماً أن يتقبل ذلك ، وهي ايضاً لم تتقبل انتماءات ابنها، وكانت تعتقد دائماً أن ابنها مُختطف من قبل رفقائه.
لم اشعر بألم جدتي في عدم تقبل والدي لانتمائها إلا عندما قررت إكمال دارسة الماجستير والالتحاق بجامعة الجزيرة في السودان “بدون محرم”، هنا تصادمت اتجاهاتنا، فوالدي الذي رباني على الحرية الصوت والفكرة وأن قيمة الانسان ما يقدمه وليس بنوعه ذكر كان أم أنثى،” لم يرحب بسفري”، واعتبر ذلك خط احمر لا يقبل النقاش، وكان للعم الشهيد بإذن الله الدكتور أحمد حاجي عبد الرحمن رأي أخر، جلس الاثنان للنقاش والاخذ والرد انتهت بموافق أبي على مضض.
في السودان قابلت عالم أوسع، اقتربت أكثر من الفكر الاخواني الذي تعرفت عليه سابقاً في مكتبة أبي، وانفتحت على تراث جدتي الصوفي، وبفضل معهد إسلامية المعرفة في جامعة الجزيرة انغمست بشغف في عالم الفلسفة الإسلامية والغربية، وتعلمت أن ” ثبات المنطلقات والغايات أهم من ثبات الوسائل” حينها أخبرت والدي عن اقتناع أنني لا يمكن أن أنتمي لأي تيار فأنا أشعر أن ” *الكل أنا وأنا الكل”، وتقبل ذلك مُشجعاً.
ويوماً بعد يوم يزداد يقيني أن جميع التيارات هي وسائل تحمل أفكار لغاية واحد، وهي أفكار لا تمثِل ” منفردةً” الحقيقة المطلقة، فكل واحدةً منها تحمل أفكار بروائح جميلة، الإِئْتٍلاف بينها يحقق الاخوة الإسلامية التي لا مكان للعصبيات الجاهلية فيها، والتعصب للأفكار يُنسي الغاية وتكون هي الغايات المقدسة، التي تتعارك، تتصارع، تتدافع، وتتأكل في الطريق وتموت قبل الوصول.
في يوم مولده الشريف لنتذكر: أن الصوفية هي من وضعت أسس الحضارية للمجتمع الصومالي المسلم في بدياته، وهي من علمتنا السبع للحفظ القرآني، وهي أول من حاول القضاء على القبلية بأساليبها المُقنعة، فبعض الانصاف يحفظ الذكرى وبعض اللطف في النقاش يُعدل المجرى، والكثير من التفهم يصون المودة.