يقف مستقبل إثيوبيا على المحك في ظل مشهد عام يمتاز بالمزيد من التعقيد والتأزم، إذ يحتدم الصراع الدائر في البلاد منذ نوفمبر 2020 بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير تيجراي والذي يدخل عامه الثاني، وسط سياق سياسي وأمني واقتصادي مضطرب أسهم فيه بقوة غياب الرشادة لدى طرفي الصراع في إيجاد تسوية شاملة للخروج من المأزق الراهن الذي يهدد مستقبل الدولة في إثيوبيا، وينذر بعواقب وخيمة قد تؤدي إلى تفككها مستقبلًا.
المشهد الراهن
استطاعت قوات دفاع تيجراي منذ استعادة السيطرة على إقليم تيجراي بعد طرد القوات الفيدرالية خارجه تغيير موازين القوة على الأرض، حيث تحولت استراتيجيتها العسكرية من الدفاع إلى الهجوم وتوسيع دائرة الصراع إلى مناطق استراتيجية أخرى من خلال فتح ثلاث جبهات للقتال ضد القوات الحكومية بهدف إضعافها، والتي تمثلت في إقليمي أمهرة وعفر، والمثلث الحدودي بين إثيوبيا وإريتريا والسودان في شمال غرب البلاد. وقد ارتبطت هذه الاستراتيجية بعامل آخر حاسم للصراع تستغله جبهة تحرير تيجراي لحسمه لصالحها، وهو السيطرة على معظم الطرق الرئيسية التي تربط بين أديس أبابا والعالم الخارجي خاصة في إقليمي عفر وتيجراي بهدف تضييق الخناق على نظام آبي أحمد ومحاولة توريطه في العديد من الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية لتأليب الرأي العام الإثيوبي ضده.
ويشهد الصراع الإثيوبي مرحلة جديدة تضفي المزيد من التأزم على المشهد الأمني في البلاد، وتبدو في منظور العديد من المتابعين أنها مرحلة الحسم، حيث تعرضت بعض المناطق في إقليم تيجراي في أكتوبر الماضي لعدة ضربات جوية حكومية في محاولة لتخفيف الضغط على القوات الإثيوبية في جبهات القتال، خاصة بعد تحقيق قوات دفاع تيجراي عدة مكاسب استراتيجية مهمة خلال الأيام القليلة الماضية حيث استطاعت التوغل في إقليم أمهرة والسيطرة على العديد من المدن الرئيسية مثل ديسي وكومبولشا الاستراتيجيتيْن في جنوب الإقليم والتوجه شرقًا حتى باتت على بُعد عشرات الكيلومترات من العاصمة أديس أبابا؛ الأمر الذي يثير المخاوف لدى الحكومة الفيدرالية وحلفائها من احتمالية الإطاحة بالنظام الحاكم وسيطرة تيجراي مرة أخرى على الحكم.
في المقابل، اتسم موقف رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، بالارتباك في ضوء التفوق العسكري لجبهة تحرير تيجراي في مناطق الصراع، حيث أعلن حالة الطوارئ في كافة أنحاء البلاد، ودعا جموع الشعب الإثيوبي إلى حمل السلاح والمشاركة في القتال، وهي دعوة متكررة للحشد والتعبئة العامة لم تحقق أهدافها خلال المراحل السابقة من الصراع بسبب ضعف القدرات القتالية والعسكرية للمدنيين في إحداث تحول جذري في مسار الصراع الدائر في البلاد. كما تعكس فشل القوات الإثيوبية في حسم الصراع وهزيمة قوات دفاع تيجراي، بالرغم من تورط القوات الخاصة التابعة لبعض الأقاليم الإثيوبية في الصراع للقتال إلى جانب القوات الحكومية.
وتأتي العقوبات الأمريكية الأخيرة التي أعلنها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، ضد النظام الحاكم في إثيوبيا لتعزز الضغوط على آبي أحمد، حيث قررت واشنطن تعليق المزايا التفضيلية التجارية المقدمة لإثيوبيا وفق قانون النمو والفرص في أفريقيا بحلول العام المقبل 2022. وهو ما يعني صعوبة تحسن العلاقات الإثيوبية الأمريكية في ظل حكم آبي أحمد خلال المرحلة المقبلة، كما يمثل تحديًّا كبيرًا للاقتصاد الإثيوبي الذي يواجه صعوبات بسبب الصراع في تيجراي، واستمرار تفشي جائحة كوفيد-19 في البلاد، مع احتمالية هروب الاستثمارات الأجنبية من البلاد.
دلالات مهمة
تحمل التطورات المتسارعة للصراع الإثيوبي الداخلي العديد من الدلالات الكاشفة لحجم هذا الصراع ومخاطر استمراره، وتتمثل أبرز تلك الدلالات في:
1-خيارات محدودة لآبي أحمد: في ضوء إخفاق قواته في القضاء على قوات تيجراي، وفشله في تبني سياسات بديلة لتغيير المعادلة العسكرية على الأرض، فضلًا عن صعوبة استدعاء أطراف خارجية للتورط في الصراع خوفًا من فرض العقوبات الأمريكية والدولية عليها، وإن كانت بعض الأطراف الإقليمية والدولية تقدم له الدعم اللوجستي مثل الطائرات بدون طيار (الدرونز) وغيرها لحسم الصراع. وهو ما يعني اقتراب جبهة تحرير تيجراي من إلحاق الهزيمة بالقوات الحكومية والوصول إلى العاصمة أديس أبابا في ضوء محدودية قدرات وكفاءتها العسكرية والقتالية.
2-اختلال توازن القوة: تشير نجاحات قوات دفاع تيجراي إلى اختلال ميزان القوة العسكرية في مناطق الصراع الإثيوبية لصالحها. وهو ما يعني اختلال ميزان القوة السياسية لكلا الطرفين لصالح جبهة تحرير تيجراي وما يصاحبه من فرض شروطها في حالة الرضوخ للضغوط الدولية للجلوس على طاولة المفاوضات، وهو ما لا يقبل به آبي أحمد الذي لديه إصرار على الاستمرار في الصراع بالرغم من المكاسب الاستراتيجية التي يحققها خصمه.
3-تصدير الأزمات للخارج: يحاول آبي أحمد الالتفاف على الرأي العام الإثيوبي خوفًا من انهيار شعبيته لا سيما عقب فوزه بالانتخابات البرلمانية الأخيرة في البلاد وتشكيل حكومة جديدة، ورغبة في شيطنة جبهة تحرير تيجراي. خاصة بعدما أعلن عن تورط عناصر أجنبية في الصراع الدائر في البلاد، وتورط جهات خارجية في تقديم الدعم الاستخباراتي لجبهة تحرير تيجراي حول تحركات الجيش الإثيوبي. بالرغم من مشاركة بعض القوات العسكرية الإريترية والصومالية للجيش الإثيوبي في الصراع منذ اندلاعه، حسب بعض التقارير الدولية.
4-الانزلاق إلى الحرب الأهلية: تمثل دعوة آبي أحمد إلى التعبئة العامة وحمل السلاح لكافة المواطنين مؤشرًا خطيرًا في حالة انفلات الأوضاع الأمنية في البلاد ووصول قوات تيجراي إلى أديس أبابا، وهو ما ينذر بالتحول إلى “حرب الكل ضد الكل” في البلاد، مما قد ينذر بتفكك الدولة الإثيوبية مستقبلًا.
5-خلخلة التحالفات الحكومية: تسعى جبهة تحرير تيجراي إلى التخلص من حلفاء آبي أحمد الرئيسيين بهدف إضعافه وإقصائه من المشهد السياسي؛ على رأسهم قومية أمهرة التي تناصبها العداء تاريخيًّا، في ظل رغبة الأخيرة في إقصاء الجبهة من الساحة السياسية والقضاء عليها، والعودة إلى السلطة مرة أخرى. إذ يعد إخضاع إقليم أمهرة هو البوابة الاستراتيجية للسيطرة على العاصمة أديس أبابا والإطاحة بحكم آبي أحمد، ومن ثم العودة مجددًا إلى السلطة في البلاد.
تداعيات خطرة
يشير استمرار الصراع المحتدم في شمال إثيوبيا وتعنت أطرافه في الوصول لتسوية شاملة إلى عدد من التداعيات المحتملة التي تشكل تهديدًا واضحًا لوحدة الدولة الإثيوبية. والتي تتمثل أبرزها في:
1-الداخل الإثيوبي: تتعدد المخاطر المحتملة المترتبة على استمرار الصراع الداخلي في البلاد، ففي حالة نجاح جبهة تحرير تيجراي في السيطرة على العاصمة أديس أبابا، قد تنزلق البلاد إلى حرب أهلية شاملة، نتيجة الإطاحة بحكومة آبي أحمد التي ستقاوم إلى جانب معظم الأقاليم الإثيوبية سيطرة تيجراي على السلطة مرة أخرى. وما يصاحب ذلك من تنامي احتمالات تفكك الدولة الإثيوبية إلى دويلات صغيرة. في ذات الوقت، يعني استمرار الصراع دون حسم استنزافًا لمقدرات الدولة الإثيوبية وتفاقم حالة الاستقطاب والانقسام الداخلي بين الأطراف السياسية في البلاد؛ الأمر الذي يلقي بظلاله على تدهور الاقتصاد الإثيوبي والمزيد من التفكك المجتمعي وتفاقم الاضطرابات السياسية والأمنية والعرقية.
2-منطقة القرن الأفريقي: تنظر معظم القوى الدولية إلى إثيوبيا باعتبارها ركيزة أساسية بالنسبة لأمن واستقرار القرن الأفريقي، فهي جزء لا يتجزأ من أمن المنطقة. لذا، يمثل استمرار الصراع في إثيوبيا تحديًّا واضحًا للأمن الإقليمي هناك، حيث تزداد المخاوف من تمدد هذا الصراع إلى بعض دول القرن الأفريقي، الأمر الذي يترتب عليه زعزعة أمن واستقرار المنطقة، مما يهدد المصالح الاستراتيجية للقوى الدولية، وربما يترتب عليه انخراط المزيد من القوات الأجنبية في المنطقة، وهو ما يعني المزيد من العسكرة في القرن الأفريقي.
وإجمالًا، يواجه آبي أحمد اختبارًا صعبًا في خضم تفاقم الصراع الدائر في البلاد، يعززه عدم امتلاكه خيارات متعددة لحسمه بشكل نهائي، وهو ما يجعل مستقبله السياسي في مأزق، في ضوء التنبؤات بقرب سيطرة جبهة تحرير تيجراي على العاصمة أديس أبابا خلال الأيام المقبلة، مما قد يدفعه للاستعانة بحلفاء إقليميين ودوليين للمشاركة في القتال بهدف تحقيق التوازن العسكري على الأرض تمهيدًا لحسم الصراع لصالحه، وإن كانت المكاسب الاستراتيجية لتيجراي على الأرض والقيود الدولية على تورط أطراف خارجية في الصراع تشير إلى غير ذلك.
بقلم أ-احمد عسكر
المصدر: قراءات أفريقية