سبحان من خلق الذوق بل الأذواق؛ فهناك ذوق للسمع وآخر للعين، وبين هذا وذاك ذوق للأنف، وحتى اللمس له ذوقه الخاص، أنت حينما تكون في وسط المدينة والناس مكتظون والسيارات مزدحمة، و هناك الضجيج والضوضاء، طبعا تشعر بالإنقباض والضيق، قارن هذا عندما تكون خارج المدينة وترسل عينيك إلى الآفاق وليس أمامك برج يمنعك من رؤية الأشياء البعيدة!.
دخلت الفندق وارتقت السلم، ووصلت الدور الخامس، دخلت غرفة خاصة وجلست على الأريكة، وجاءك الموظفون كأنهم عبيد كسرى في تفانيهم لخدمتك؛ يسألونك عن رغباتك! فما أبعد هذا حيث وجدت نفسك وحيدا في وسط طبيعة خلابة، خالية من كل منغصات الدنيا، خلال تجوابك وفي غفلة تكلمت معك شجرة (مرحبا بي وبظلي الوارف! كم كنت أنتظرك وكم كنت محتاجة الى ثاني أكسيد كاربونك؟! وكم كنت أنت محتاج إلى أكسجيني) تعجبت وقلت هل الأشجار تنطق؟!، فردت عليك بصوت لطيف كأنه يخرج من قلب محبوب ( أنيسي لاتتعجب -أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون)، فدهشت، وقلت ياللعجب! كلامك عجيب وقراءتك للقرآن أعجب منه، فسكتت توقيرا لك لا أنها أعجزت عن الجواب، وهنا برز غصن صغير من أصغانها، وقال: (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا).
فاستسلمت وجلست في ظلها الظليل، جلست على التراب ليس هناك فرش ولا وسادة ، بل إلتحفت على الأرض ومررت يدك فوقها، استنشقت الهواء الطلق، وسمعت شقشقة الطيور، وهدير الحمام، قرت عينك بصفاء الأجواء، شعرت كأنك تنبسط وتنبسط ، هنا والحال هكذا فإذا بصوت شجي لكن لم تهتد أي جهة يأتي هذا الصوت ،فنظرت كل الجهات فلم تر شيئا، وأرهفت أذنيك، بعد بحث ونظرات وتفقد، إهتديت إلى مصدر الصوت! فإذا الأرض تقول لك (يافلذة كبدي يا قرة عيني استرح قليلا لقد تعبت كثيرا)!
سبحان من خلق الإنسان من طين، سبحان من علمنا الذوق، سبحان من أنطق الأشجار، سبحان من كون الأكوان، سبحان من خلق الجنة وجعل أهلا لأوليائه الأبرار، سبحان من خلق الذكر والأنثى، سبحان من جعل بين الأزواج المودة والرحمة، سبحان من جعل العزوبة فترة عابرة لاسرمدا.
بعد هنيهة نهضت من تحت الدوحة واستدرت إلى الشرق مشيت ومشيت ومشيت فإذا بكومة فوقها النعم -الإبل البقر الغنم والأصوات متزاحمة من رغاء وثغاء وخوار وصهيل الخيول يأتيك من جانبك الأيسر وقلبك مشغول واذنيك أعيت من تمييز الأصوات وعيناك مبهرتان بهذا المنظر البديع، سمعت خرير ماء لأن عينا تأتي من الكومة تصب نحو السهل وتصب غديرا مستديرا ماءه عذب كأنه سلسبيل، تساءلت في نفسك هل أنت عطشان؟ وكان الجواب كنت مرتويا لكن تاقت روحي لشرب الرحيق، فانعطفت نحوالغدير، وقفت فوقه فتراءت نفسك في الماء كالمرآة، نظرت قليلا وجلست القرفصاء، إغترفت مرة وثانية وثالثة وقبل أن تبلغ الثالة إلى فيك توجست كأن شيئا يراقبك فحسست فإذا غيدان في الجانب الأيمن من الغدير تراقبك!! فسقط في أيديك، تجمدت في مكانك منظر لايوصف! تراشقتما في النظرات، فتراسلا العينان دون الألسنة، تبسمت تبسم المعجب فانصلت سهام من فيها وتربعت في سويداء قلبك، ثم قامت وانسلت إنسلال الحية! يا له من منظر عجيب! تمنيت لوبقيت مكانها نظرت إلى راحتك فإذا الماء غائر، حينها خطر ببالك، قول القائل:
حملتم جبال الحب فوقي وإنني ** لأعجزعن حمل القميص وأضعف
ظفرتم بكتمان اللسان فمن لكم ** بكتمان عين دمعها الدهر يذرف!
قمت نحو الكومة لعلك تجد من يواسيك، تعنف نفسك كيف فاتتك الفرصة، لماذا لم تتكلم معها لماذا لم تدع لماذا لم تتبع آثارها لماذا لماذا؟!.
فوق الربوة وضيافة الأنعام:
صعدت الربوة فاستبشر ما فوقها من إبل وأبقار وغنم وحتى الأشجار والأحجار بمجيء سيد الكون المتسربل بالكرامة من الله (بني آدم) زفت الزفوف ودقت العطور، وبسطت الحرير الخضرآء، دعوك إلى مجلس رحيب جلست فقدم لك اللبن واللِّبأ، وبنت سليخة وأقط، وبعد مدة ليس بكثير سمعت أصوات مرتفعة كأنها تتشاجر لأن أهل الربوة أراد كل فصيل منهم أن يستضيفك فقال: نقيب الغنم نحن نضيف ونذبح له كبشا ذا قرنين، فرفض عجل وقال: مهلا ما هذا التسرع نحن أكبر منك وأحق بكم ألم يقل الرسول صل الله عليه وسلم(كبر كبر) ونذبح تبيعان واحد يطهى والآخر يشوى! وجاءل الإبل وقال: أنا أكفيكم وأسأءلكم بالرحم أن تتركو لي هذا الضيف ! فأعرضوا صفحا فاحتدم الأمر وكادالشر أن يقع بينهم!.
وبعد شد وجدب وتدافع وتشابك بالأيدي جاء أحد حكماء الكومة وقال: هل ترضون قضائي وأنا لكم ناصح أمين؟ فقالو بصوت واحد نعم، فطلب كل منهم أن يأتي بقلم فألقى الأقلام في الغدير فبرز قلم الإبل فنحر لك جزور كأنها هدي الكعبة فمكثت مكوث الأرمل عند عروسها، وحولك المد والمشوي والمقلى، فشمرت ذيلك وودعت أهل الكومة ، وغربت فانحدرت من الربوة إنحدار الماء من الجبال الشاهقة.