تعتبر حقبة العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي – أي العشرين – فترة زمنية مليئة بالتحولات الكبيرة والجذرية، التي أثرت وساهمت في تشكيل وعيِ تلك الأجيال الأربعة من الأمة الإسلامية. ولقد صادف انضمامي” كتلميذة” إلى التعليم الأساسي في العقد الأخير من تلك الفترة المشتعلة بالتغييرات الاجتماعية والسياسية ، وبالتغييرات الفكرية – ايضاً – المصاحبة لأفول نجم الدعوات والحركات القومية المعاصرة التي خفتَ وهجها في أواخر الثمانينات، نتيجةً لفشلها في استقطاب الشعوب الإسلامية إلى مشاريعها القومية ، حيث لم تتفاعل الشعوب مع محتوى تلك المشاريع تفاعلاً جدياً حسب ما كان يرجو أصحابها، فهي أي الشعوب لم تشعر بشكل كافٍ بأن الانتماء القومي يكون حلّاً لأزماتها المتعددة أو سُلّماً لنهضتها.
ولذلك أصبحت الساحة شبه جاهزة لاستقبال تيارات أخرى جديدة تتسلم زمام الأمور وتملأ ذلك الفراغ النفسي ، وتستطيع أن تَتجاوب مع أحلام وطموحات هذه الشعوب منبثقةً من ثقافتها الإسلامية. فكانت هذه هي الفرصة الذهبية التي لا تُعوض بالنسبة للتيارات الإسلامية، التي وجدت نفسها بعد حراك وتدافع طويلين مع التيارات القومية والاشتراكية بأن وقتها مع الشعوب الإسلامية قد حان، وتم لها بذلك ما كانت تسبوا إليه.
توجهت الحركات الإسلامية جميعها أي بكل تياراتها ، بشكل جدي صناعة واقع جديد يختلف عما كان قائماً في ساحات المجتمعات الاسلامية حتى ذلك الحين، فكان رهانها الأول والأخير على الناشئة المسلمة، فنجحت إلى حدّ بعيد في جذب واحتواء هذه الفئة من المجتمع نجاحاً باهراً، فهي التي – أي التيارات الاسلامية – كانت تمتلك المخزون المعرفي المُتجذِّرْ في عمقها النفسي وفي بعدها التاريخي العملي ، وهو ما مهّد لها مخاطبة “جيلي” باللغة التي تتلاءم معه في كل تلك الأبعاد النفسية والثقافية والتاريخية وتؤثر فيه.
ففي تلك الفترة أصبحت لفكرة “صناعة الترفيه المحافظ” وقع خاص ورواج كبير في أوساط التربويين، الذين عمدوا إلى إدخال الترفيه في المنظومة التعليمية، فأصبح بذلك النشيد والمسرح والرواية والرياضة والرحلات والمنشورات جميعها ذات طابع ديني محافظ، تُخاطب وجدان وفكر ونفسية الناشئة المسلمة. فكانت النتيجة تنشئة جيل كامل يؤمن بأن قضية فلسطين هي قضيته المركزية الأولى، وبأن الأندلس كما كانت مسلمة في ماضيها سوف تعود مسلمة في مستقبلها، وبأن أوجاع الأمة الإسلامية هي أوجاعه هو كذلك أين ما كانت.
وقد استمر الحال على ذلك، وخرج للأمة جيل من ثلاث فئات؛ فئة أخذت هذه المفاهيم والقيم من زاوية التطرف، وفئة تصادمت مع هذه المفاهيم ورفضتها بل وحاربتها في بعض الأحيان، وفئة أخرى تُعتبر من السواد الأعظم تشرّبت هذه المفاهيم وانضجتها ووضعتها في قوالب تتناسب معها. وكانت المحصلة النهاية لهذه الجهود هو تأسيس هوية إسلامية واحدة، وتثبيت مشاعر الانتماء لمظلة كبيرة اسلامية جامعة. صحيح كان في بعض الأحيان على حساب الهوية الوطنية لكنها، على الأقل، قد نجحت في تحقيق حلم من أحلام الأمة الكبرى “حلم الوحدة” وإن كان نفسياً.
واستمر الحال على ذلك إلى أن أتت ضربة “11سمبتمر” التي ضربت فعلاً كل الجهود السابقة، وجعلت من الإسلام هدفاً ومرمى لكل الاتهامات والتشكيك، فتحركت المدارس الإسلامية جميعها نحو هدف جديد وهو حماية نفسها وتبرأت الإسلام عن تلك الاتهامات، والدفاع عنه، واستمر هذا الهدف والسجال حوله عقداً ونيفاً تقريباً. وبعد ذلك لاح في الأفق هدف جديد هو تصحيح صورة الإسلام من خلال إظهار سماحته للعالم الخارجي، فخرج من المعادلة الجديدة تماماً “استهداف الناشئة المسلمة”، والتي بدورها شعرت بأن الخطاب الموجه إليها هو خطاب لا يتناسب معها، فابتعد الشباب عن محاضن التأثير الإسلامي، واكتفت الحركات الإسلامية في مراقبة هذا الابتعاد بضعف، او الخروج بين فترة وأخرى بمحاولات لا ترتقي إلى طموحات تلك الناشئة المسلمة.
وبدلك حاول الشباب بدوره وفي ظل هذا الفراغ الجديد، تعويض مشاعر ذلك الخواء والالتحام مرة أخرى مع المشروع الإسلامي من جديد من خلال مشاهد تبدوا سطحية ، ولكنها تُشبع فيه روح القوة والانتماء الكبير إلى هذه الأمة وحضارتها الإسلامية العظيمة، و الاعتزاز بذلك الانتماء، ولو كان ذلك فرحهً لانتصار منتخبٍ من بلد إسلامي في لعبة لكرة القدم، في شعورا خداع ، ومحاولة تخديرية توجه المشاعر الاسلامية المتدفقة نحوٍ اهداف ٍ غير حقيقي ، وقد يترتب في استمرار هذه المشاعر خطورة أن تتحول إلى معيارٍ للقوة الإسلامية ، وهذا هو خطر وجودي يهدد الأمة الإسلامية في أن تعتبر استهداف التفاهات انتصارات.