قلما يوجد انسان صومالي لا يعطي أهمية كبيرة لموضوع البحث عن أصله القومي او العرقي، وهذا الاهتمام قد يكون مقبولاً إذا نظرنا إليه كنوع من الاهتمام الأنثروبولوجي او التاريخي او كمدخل لمعرفة علم الآثار في الصومال، وكذلك يمكننا أن نتسامح مع هذا الاهتمام إذا كان من باب (وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، ولكنّ المبالغة في تضخيم إدعاءات الأصل غير الصومالي ، والتفاخر بالمنبع المفرِّق بين الصوماليين، والاستحضار غير المستساغ للعنصر العربي أو الكوشي في أحاديث ومجالس العامّة وفي خطابات الاعلام الشعبوي، خاصة في الآونة الأخيرة، في الوقت الذي يكون الوطن في أمسَ الحاجة إلى كل معاني توحيد نسيجه الاجتماعي ؛ هو أمر مستغربٌ ومثيرٌ للتساؤل عن الأسباب التي تدفع المواطن الصومالي إلى هذا الاتجاه” الآن”، وتجعله يتوق بشدة إلى معرفة ماضٍ وجذورِ متباينةٍ، بغضّ النّظر عن صحة أو عدم صحة ذلك الماضي وتلك الجذور المتباينة للمجتمع الصومالي!.
وقد يبدو غريباً ومستفزاً في أن ينشغل المواطن الصومالي اليوم بمعرفة أسبابٍ تفرّقه أكثر من اهتمامه في بناء جسور تجمعه، وتلملم شتاته، لكن عندما نتتبع خط سير عملية البحث عن الجذور” كما يحب أن يسميها أصحابه” نجدها تترافق مع “الشعور بالاغتراب” والبحث عن هوية جديدة غير الصوملانية المتوارَثة، ويتخللها مشاعر النقص أو ذكريات الإساءة والفشل في الاندماج مع الهوية الصومالية الجماعية.
فهذا “الباحث عن الجذور” كما يَعتَقدُ، واجهته أطوارٌ من الانكسارات والأذى والإخفاقات من المكونات المجتمعية الخارجة عن جماعته الأولى، واستمرار الخيبات التي أصابته – كما يعتقد – جعلت موقفه الكلي أقل إيجابية تجاه المجتمع الأكبر، وبالتالي أربك ذلك الموقف منظوره الكلي عن الوطن والمواطنة الجامعة للجميع. فيرى أن سبب وضعه الاجتماعي المتدني، هو عدم انتمائه الحقيقي لمجتمع الوطن الأكبر، مما ولّد لديه هذا الشعور في أنه مستبعد ومرفوض، وترافق ذلك صراعٌ نفسيٌ داخليٌ، وشعورٌ بالخجل والضعف، وانتهى ذلك كله إلى توجيه الاتهامات الداخلية للذات، ولكي يُنقِذ الذات من عذاب جلد الذات وتأنيب الضمير، ويشعر بالرضا، ويتجنب التناقضات الذاتية والخارجية، وينتصر “ولو نفسياً” على القهر والاستغلال اللاإنساني الذي لاقاها من محيطه الاجتماعي، اختار “التصالح المزيف” من خلال إدّعاءات الانتماء إلى جذور اجتماعية بعيدة مختلفة لا يمكن اثباتها او نفيها.
وهل يمكن أن يستمرّ” التصالح المزيف”؟
إنّ للتصالح المزيف خطاباً عاطفياً جذّاباً، يولّد الشعورَ بالفخر، ويساعد على رفع الاكتاف، وإعطاء نوع من قوة قاهرة وهمية، ولكن في حقيقته خداع للذات وهروب نفسي عن واقع لا تستسيغه، وتزييف للوعي والواقع والتاريخ، ووجود مثل هذا الشعور وانتشاره فيما بيننا لهو دليل على هشاشة وقصور الصورة “الصوملانية الجامعة” التي رسمناها لأنفسنا عبر التاريخ، وشاهد كذلك على استمرار التأزُّم بين الأناءتين: أنا الجماعة وأنا الوطن.
ومن جانب آخر، فإنّ الهوية الصومالية لا يمكن لها أن تقبل التصالح المزيف باسمها، فهي هوية ذات بنية ثابتة ويفترض أن تكون جامعة، صحيح أنّ التصالح المزيف يجعل المواطن الصومالي فخورا بأنه قد وجد هوية غير صوملانية، ولكنه لا يشعر بالاطمئنان الكامل مع هذه الهوية بمعناها الحقيقي ، وكانه يتوق إلى شيء “مختلف بالكلية”، وهذا الشيء المختلف هو عدم الانصهار الفعلي ” بالهوية الصومالية “، إنّ أي ادعاءات لهوية غير صوملانية هي فورةُ شعورٍ بانتصار وهميٍ لحظيٍ، ولكن مع استمرار استدعاءاتها، قد يزرع كُرهاً مجتمعياً لا ضرورة له، وقد تكون نهايتها عودة السلاح الحقيقي كنوع من إثبات وجود تلك الفروق في الوسط الصومالي.