“السؤال الكبير هو: كيف نتعامل مع الاختلافات والردود الواردة في بطون كتب التراث”
الوحي الإلهي لا نضعه في خانة التراث وإنما ما عداه من شروح الفقهاء وأقاويل العلماء من شتى الفنون والعلوم
“أكثر الردود والأقوال التي تبادلها الخصوم ينبغي أن ينظر إليها أنها مرحلة زمنية وموضعها في رفوف التاريخ” .
ثمة مشكلات كثيرة وعويصة عندما نتعامل مع التراث، لأنه يختلط ما له إلزام بما يخلو من هذا الإلزام.
نعم التراث، وما أدراك ما التراث! وجبروته وسلطته وحضوره وتمدده وتدخله في جوانب الحياة صغيرها وكبيرها.
المسلمون أمة النص فالنص القرآني والحديث الذي نزل قبل أربعة عشر قرنا له سلطته وحضوره وهيبته، وهذه النصوص وخصوصا الحديث هي من الكثرة والسعة بحيث تتناول كل جوانب الحياة.
(في صحيح البخاري وحده سبعة آلاف ومئتان وخمسة وسبعون حديثاً، وهذا العدد يشمل الأحاديث المكرّرة، أضف إلى ذلك عشرات الآلاف من الأحاديث في الصحاح والمعاجم والمسانيد والآثار، ومنها الصحيح والضعيف والموضوع، وكلها يتم الاستشهاد بها )
فكيف إذا انضاف إلى الوحي نصوص تراثية كثيرة من أقوال المفسرين وشروح الفقهاء وأقوال المتكلمين، وردود بعضهم على بعض وكأنها حاضرة أمامنا تتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شئوننا ، فأنت لا تعدم نصاً قيل في القرن الثالث الهجري، أو الرابع لزيد من العلماء يكفر فلانا أو يبدعه أو يفسقه، أو يلعن الطائفة الفلانية، ويلزمك بعدم زيارة المبتدعة وعدم التبسم لهم، ونحو ذلك.
وهذا القائل من السلف كان يعاني مثلك ، ويخوض في مجادلات كثيرة مع من حوله، ويتعارك معهم في المساجد، ويرد بعضهم على بعض، وله علاقات وارتباطات.
إننا نفغل تأثير الزمان والمكان والظروف والملابسات على الأقوال التي قيلت في عصر من العصور.
فالحقيقة أنه ينذر أن تجد أمة تعيش اليوم وأمامها تراث مطبوعٌ هائل مليء بالتشاحنات والأزمات والمشكلات والردود والعنف اللفظي المتبادل وبهذه الكثافة.
لنفترض أن المجتمع في إنجلترا وفرنسا وأمريكا ظلت تتناقل في دروسها الردود والعبارات التي كان يرد بها توما الأكويني، وجاك روسو أقرانه، وعبارات كانْت وهيغل وعبارات فولتيير ومونتسكيه صاحب نظرية الفصل بين السلطات، وأقوال نابليون وغيرهم،
هؤلاء مع حضورهم في عالم الغرب لكن ليس لعباراتهم وأقوالهم حضورٌ في شئون الحياة اليومية، وهي تبقى على المستوى الأكاديمي وتدرس آراؤهم فقط لمعرفة التطور الذي شهده علم من العلوم كالفلسفة وعلم الاجتماع ونحو ذلك، ولكن ليس لالتزامها حرفيا..
يعاني المسلمون من نوبات تعصبٌ شديد لأقوال الشيوخ فزيد يتعصب لفلان مؤسس المذهب الفقهي والكلامي، ويُكنُّ له حبا شديدا مبالغا فيه يأخذ منه مجامع القلب، ويأخذ جميع أقواله حتى لو كانت أقوالا لو كان قائلها حيا لتراجع عنها،
فانظر إلى هذا البلاء ، وهذا العنت المحرك للأزمات التي يعيشها المسلمون،
وهذا من أسباب قلة التوافق وكثرة الانفعال، لأن فلان يقرأ كتاب البربهاري والخلال والدارمي والأشعري وابن قتيبة وآلاف من العلماء،الذي خلدت كتب التراجم كثيرا من أحكامهم على من حولهم من المخالفين والموافقين، ونحن نتأبط تلك الكتب والأقوال طازجة حاضرة، فكيف نجد سلاما وهدوء ونحن نجتر كل تلك الأحمال والأغلال وذلك الركام من الأحكام.
وهنا تضعف سلطة القانون والاجتهاد والإجماع،
كيف يعيش الإنسان عصره وظروفه وأحواله يجتهد خالي الذهن من مشكلات مسبقة،
نتمنى أن نعيش خالي الذهن بمعزل من سلطة هذا الركام، وتبقى لدينا نصوص الوحي الهادية المرشدة.