طريقة طلب العلم عند الأجيال السابقة في الصومال ، وأعني بذلك ما قبل إنتشار الصحوة في ربوع البلاد حيث لم يكن أهل المدن يطلبون العلم الشرعي إطلاقا بل كان ينصب اهتمامهم على العلوم العصرية من أجل المستقبل كما زعموا. وإنما كان البدو هم الذين كانوا يرسلون أولادهم إلى المدن لتلقي العلوم الشرعية بعد أن يحفظوا القرآن الكريم في الخلاوي.
فيأتي أحدهم إلى البلد وهو لا يعرف أحدا فيها. ولا يتزود من اهله شيئا، فيعاني الأمرين في الحياة. فلا بيت يأوي إليه للنوم فيه ولا جهة تقوم بالأنفاق عليه. وأكثرهم حظا من كان له زميل في قريته سبقه إلى البلد في طلب العلم، فيرشده إلى طريقة التأقلم مع حياته الجديدة.
فبعد مرور شهر أو شهرين يرجع أكثر من نصف العدد لعجزهم عن تحمل مشاق الحياة في بلد ليس له فيه أهل ولا مال، ومن بقي منهم يبقى لفترة من الزمن مترددا بين الرجوع والبقاء حتى يترجح أحدهما على الآخر بعوامل تتوفر لهذا الطالب دون ذلك.
فإذا تجاوز الطالب هذه المرحلة، واطمأنت نفسه للبقاء في طلب العلم واجهته صعوبات لا تقل أهمية عن سابقتها ويأتي في مقدمتها كيفية طلب العلم وطريقة اختيار الفن الذي يحسن أن يبدأ فيه. فالمشايخ جرت عادتهم أن يجلس للتدريس في كتاب معين ثم لا يهمه من يحضره. وليس بين الشيخ والطلاب أي علاقة، فيتيه الطالب بين الحلقات، فيحضر للتفسير، ثم يهرع للحديث ثم يعود للفقه ثم يختم بما تيسر من العلوم الأخرى، فيطير بينها كالنحلة بين الزهور على أمل أن يتحصل عليها كلها مرة واحدة، فبعد شهور يتبين له أن ليس في جعبته شيء من العلم لأنه لم يأت العلم من ابوابه. فيعيد التفكير من جديد للبحث عن الطريق الأمثل في طلب العلم. فإن وجد من يدله على الطريق الصحيح في تحصيل العلم والتدرج فيه يكون بين خيارين أحلاهما مر. فإما أن يأخذ بما أشير عليه، ويلغي كل الذي سبقه لانه لم يبن على أسس صحيحة، وإما أن يثقل عليه ذلك فيؤثر الإنسحاب على البقاء فيرجع وهو يعض بأصابع الندم على ما خسره من الوقت.
ومن ثبت منهم قد تعترض عليه عوائق كثيرة تحول بينه وبين العلم. فلا يصل إلى الهدف من الرحلة إلا قلة قليلة. وهؤلاء القلة هم الذين صاروا بعلمهم أودية تنهل منها الأمة، فأخلد الله ذكرهم بين الأنام قال النبي ( اذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث … فذكر منهم ( او علم ينتفع به)
فهؤلاء المشايخ الذين تستنيرون بعلومهم اليوم احياء وأمواتا هل تساءلتم كيف كانوا يعانون في تحصيل العلم. اذكر ونحن شباب نطلب العلم في مسجد سيغال في مقديشو قال لي احد الطلاب وكان قريب عهد بطلب العلم وكان من منطقة بكول لا يعرفه احد ولا يعرف أحدا قال: بقيت يومين ولم آكل شيئا وليس في جيبي شلن واحد حتى كان قبيل غروب الشمس في اليوم الثاني، قال فكنت أصاب بما يشبه الغيبوبة من شدة الجوع فيذهب البصر مني تارة ثم يعود إلي وانا في تلك الحالة دخل في المسجد رجل وانا جالس في مؤخرة المسجد مستند الى جداره استقوي به من الضعف . فتخطى جميع الطلبة وهم اعداد كبيرة فرادى وجماعات حتى أتى الي ودفع لي مبلغا من المال سرا. فحينها نهضت ولم استطع القيام إلا بصعوبة بالغة ثم مشيت اتكئ على عصا حتى وصلت إلى المطعم فاكلت بعد أن كادت روحي تخرج. ولما أخبرني بالقصة تساءلت نفسي من يكون ذلك الرجل الذي اسعف ذلك الطالب. فقلت في نفسي لعله كان ملكا في صورة بشر أرسله الله لإنقاذ ذلك الطالب من الهلاك ( امن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء … ) والأمثلة كثيرة . ولهذا فالله بارك في علمهم ونفع بهم فلم يكونوا يحصلون به على شهادات ولا وظائف ولم يكن لهم مطلب في العلم إلا نيل مرضاة الله . اللهم تقبل منهم. وارفع درجتهم في العليين.
ادركنا ونحن طلاب في حلقات العلم في مساجد مقديشو مشايخ كانوا قدوة للمجتمع الصومالي بأطيافه ومنهم الشيخ عمر الفاروق. ومنهم الشيخ محمد معلم حسن. والشيخ شريف عبد نور والشيخ ابراهيم سولي. والقائمة تطول. ومعلوم عند الجميع ان توجهاتهم كانت مختلفة. فمنهم الإخواني. ومنهم السلفي. ومنهم التبليغي. وكنا نحضر لجميعهم للاستفادة من علومهم. وكل منهم كان ينصر منهجه الذي يراه صوابا.
ويقيم عليه من الأدلة ما يظهره راجحا على غيره. ولم يكن أحد منهم يتعرض لذكر المخالف باسمه . وإن قدر ان اجتمعوا اواجتمع بعضهم وضعوا ما بينهم من المسائل الخلافية جانبا . وركزوا على القواسم المشتركة بينهم من هموم الأمة وحاجات الدعوة واذا رد على أحدهم ممن دونه تغافل عنه حرمانا له من الشهرة بذلك. فخلف من بعدهم دعاة صار هم أحدهم البحث عما ببن السطور من المستور والتنقيب عن السرائر لقصد التشهير بالمخالف. فلا تمر عليه ساعات حتى يقابله الطرف الآخر من الردود بما هو أعنف من الأول.
وفي الرد والرد المقابل بذلت الجهود واستهلكت الطاقات حتى خرجت الأمور عن السيطرة. فتسمع الجميع من التشنيع والإساءة ما لا يليق بالمقام. فالصق كل بالآخر من التهم ما هم عنهم براء.فساءت ظنون المجتمع بالأطراف جميعا. فالمرء جميل في أعين الآخرين بالستر. فإذا كشف الستر ظهرت العيوب للعيان. فتهتز ثقة الآخرين في ذلك الداعي . وبعد جولات وجولات تهدأ العاصفة فيتمنى الجميع ان لو لم يكن شيء مما حدث ولكن هيهات فقد سرى بحديث القوم ركبان. فقد تحولت تلك الإشاعات عند الناس الى حقائق ثابتة في أذهانهم يصعب محوها بسهولة ( ان قيل ما قيل إن صدقا وان كذبا … فما اعتذار ك من قول أذا قيل ) فهل من معتبر
اللهم من علمنا حرفا من العلم فتول جزاءه عنا.اللهم آمين.