سبتمبر عام ٢٠٠١م كنت في أواخر أيام عطلتي الدراسية التي قضيتها مع الأهل في بلدوين وسط الصومال، وأقوم بالترتيبات الأخيرة لرحلة العودة من بلدوين إلى بربرا برا، ومن بربرا بحرا الى ميناء المخا اليمنية على البحر الاحمر ، ومن المخا إلى العاصمة اليمنية صنعاء برا من جديد، رحلة متعتها في صعوباتها، من بلدوين الى جالكعيو تستخدم شاحنات البضائع أو حتى شاحنات تنقل المواشي، والحواجز غير الشرعية على الطريق متقاربة جدا وتطلب إتاوات اجبارية و إلا الطلقات الحية هي الحكم والخصم، وأتذكر عند ما حاول سائق الشاحنة بتجاوز أحد الحواجز أمطرونا بالرصاص وانحنى الجميع برؤوسهم واتذكر أن إحدى طلقات الرصاص أصابت في جنب السيارة حيث كنت متكئا برأسي ولولا غريزة الانحناء التي ألهمنا الله بنا في مثل هذه المواقف لكان حديثنا عن القصة مختلف، والحمدلله تجاوزنا بسلام، والكل يلعن السائق المتهور.
وفي رحلة مماثلة انقلبت بنا الشاحنة بعد أن انفجر الإطار الإمامي والذي تزامن مع انعطاف اجباري للشارع، وفشل السائق في التحكم بالسيارة وخرجت من الطريق الى الغابة ثم انقلبت الى جانب الاطار المنفجر ، وكانت تحمل أطنانا من الذرة والبصل وعشرات من الركاب من بينهم أطفال ونساء، والحمد لله كانت الخسائر اصابات فقط وإن كانت بعض الحالات خطيرة للغاية ، أنا لم اتعرض لإصابات ظاهرة لكن كنت اشعر بضيق التنفس بسبب تشابك القفص الصدري .
ومن جالكعيو الى بربرة تستخدم سيارات متطورة مقارنة ببقية المناطق (سيارات تويوتا كراسيدا مارك تو ) في الأصل مخصصة لخمسة نفر الى جانب السائق لكنهم يقومون بتكديس تسعة ركاب ٢ جنب السائق ، و٤ في الوسط، و٣ في الخلف المكان المخصص للعفش والحقائب أو ما يسمى في اللغة الايطالية ببوستا كانو أي خانة الكلب) لكن بسبب الطريق المسفلت والأغاني الكلاسيكية والمناظر الخلابة في مواسم الأمطار تنسيك بأنك مكدس مثل البضائع في شاحنة نقل صغيرة.
وعند ما تصل الى بربرا ليس ما ينتظرك يخت سياحي فاخر أو باخرة تيتانك ذات الغرف والأجنحة، عليك أن تلحق بالسفن التي تنقل من اليمن السلع التجارية (المواد المنظفة والمشروبات والبسكويت) وتحمل في طريق العودة المواشي الصومالية المصدرة الى اليمن، في النهار تكون تحت ضربات حرارة الشمس في أجواء البحر الأحمر الساخنة جدا، وفي المساء تبحث عن مساحة تتسع لجنبك لتضطجع، والمحظوظ من يحصل على كرتون فارغ يفترشه ويستخدم حقيبته كوسادة، ووجبات الطعام أثناء الرحلة على السفينة كانت متاحة من قبل طاقم السفينة .
في عام ٢٠٠٠م وعند وصولنا الى بربرا تم الإعلان عن وجود “الحمى القلاعية ” في المواشي الصومالية، واتخذت دول من بينها اليمن والسعودية قرارا بوقف استيراد المواشي الصومالية، وفي الصباح وصلنا خبرا غير مسر بأن جميع السفن ابحرت في منتصف الليل ولا يوجد أي سفينة ستبحر الى اليمن، والحل الوحيد هو السفر جوا الى اليمن عبر جيبوتي، وتحتاج بنحو أربعمائة دولار ، وهو مبلغ من الصعوبة بمكان أن يتوفر بسهولة لأشخاص مثلي، ولم نختر أصلا هذه الرحلة الصعبة عبر البحر والبر لولا تفادي تكلفة الرحلات الجوية، فالرحلة البحرية كانت تكلف ما يعادل عشرين دولار من الموانئ اليمنية وخمسين دولار من الموانئ الصومالية، يعني كنت أصل من صنعاء الى بلدوين بما يعادل مائة دولار فقط، وبعد اتصال مع الأهالي تم تأمين المبلغ وواصلت مع الزملاء رحلة السفر الى جيبوتي ثم الى عدن ومن عدن برا وصلنا الى صنعاء.
وللقصة بقية…