بعد ٣٦٥ يوما على تقويم الميلادي، في تمام ١٢:٣١ ظهرا بأول يوم جديد، أنا هنا أجلس وحيدة لأفضل المكان في بيتنا، أريكة سرقتها من غرفة جلوس، دون علم أمي، لأني احب جلوس عليها وفكرت أياما بالمكان المناسب بعيدا عن هوسي بديكورات والفوضى. لكن بحثا عن الراحة نفسية والهدوء، فلم أجد مكانا أنسب قبال سرير جدتي، مكان أرى تقاسيم وجهها، وألاحظ تفاصيل حركاتها، وأدرس شخصيتها من خلال حركاتها، كطالبة في علم نفس التربوي أحافظ شغفي قرب جلوس الكبار والأطفال، لأنهما أصدق المشاعر والحركات.
الكبار!. يحركون شيئا ما في داخلي لا أعرف له تفسيرا ، حب، شفقة، فضول، لا أدري أيهما أقرب للحقيقة، لكني أعرف أنه شعور جميل أحب نفسي من خلاله، استأنسه، اشتاق له، لا أتصور حياتي خالية من خدمة الكبار، هل للاكتشاف وتدريس وتسلية لمعرفتي بوجودهم أم تبريك لدعائهم، أيا كان القصد.
أدركت أن الحياة جميلة بوجود الكبار، (المكاتب المهجورة) كما اسميها، لأن معظمنا مشغولون بركض الحياة، والناس من عمري يبحثون الشغف بتجارب والتسلية في أشياء جديدة، بينما أنا أبحث كنزي في جيل يكاد ينقرض وهو باحث للالتفات بجيل لا يشبههم، وتنعدم اللغة تواصل بينهم، يستخدمون نفس اللغة لكن بمعاني مختلفة، السيدة التي اتفلسف عليها بين كل رشفة الشاي متسطحة في السرير قبالي في يدها مسبحة، بين حين وآخر تسألني هل وقت الصلاة حان، أقولها بصوت مرتفع مهلا يا جدتي، بقي وقتا قليل، ورشفة أخرى أتساءل لماذا هي مستعجلة، ولحظة أخرى أتعجب حرصها على الصلاة، وهي فقدت السمع منذ وقت طويل، استوحش ما في داخلها من وحدة، نعم أعني الوحدة بمعنى الكلمة. تخيل هى تحتاج الإهتمام بكلمة لا أكثر والكل مع جلوسها يستعجل ويكره تكرار الكلمة لتفهم هي، بسبب سمعها المتأخر.
السيدة التي أحكي لكم عمرها يناهز تسعين وبضعة أعوام، ولا تزال شابة متألقة في قلبها، عندما تحدثك بزواجها وقصة حبها، حكيمة بتجاربها في الحياة واختياراتها، تعجبني طريقة اختيارها في الكلمات وهي لم تدرس فنونا واتكيت الكلام، جميلة الملامح وهي لم تضع يوما بمساحيق تجميل، تقية وهي لم تحضر الأزهر لحفظ الأحاديث، وفية بزوج وافته المنية قبل سبعين سنة، ربت جيلا من الأطفال وهي لم تدرس علم النفس التربوي.
بعد رشفة أخرى أحلل كيف هي عملاقة في روحها رغم تعبها الجسدي، أقارن نفسي بنفسها ماذا سأفعل إذا بلغت من عمرها؟ وأنا أشعر الملل والكلل بمنتصف عمري ! أتنفس بعمق كأني في التسعين من عمري، وحاولت أكمل شرب قهوتي فإذا أبردت، وتذكرت أن المرأة كالقهوة لا يناسبها الإهمال .
أجل..السيدة ذكرتني قول زهير ابن أبي سلمي (من يعش في الثمانين حولا لا أبا لك يسأم…) فماذا في التسعين. تبا !. نفذ شاحني، عسى أن أجد الجواب لسؤالي، لماذا أفضل الجلوس مع الكبار رغم خوفي في الكبر.