غرّد الإعلامي المشهور في قناة الجزيرة، أحمد منصور في صفحته على تويتر تغريدة يقول فيها “الآن لدينا 6 دول عربية أصبحت خارج سياق التاريخ والجغرافيا دُمّرت جزئيا أو كليا، والأخطر تدمير الانسان بها هي: الصومال والعراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان، والخوف البالغ على البقية”.
وهذه التغريدة بقدر ما هي واقعية ومؤلمة، لا يمكنها أن تمر دون تساؤل عميق، واحساس واعٍ، وإدراك مستبصر لـكلمة ” تدمير الإنسان”، إدراكا يستخرج من اعماقنا الحقائق المزعجة وغير المريحة، ويعترف بأن الإنسان كما يكون بانيّاً يكون كذلك مُدمّرا؛ عندما لا يشعر أهميةً لوجوده، أو يجد أهمته في تدميره لنفسه أي بعضاً من بني جلدته ووطنه إما انتقاماً أو استشفاءً أو معاً، أو تدمير غيره من بني الانسان والعمران، أو تدمير أجزاء من البيئة الطبيعية التي تحتضنه، غارقاً في ذاتيته المزعومة ومُنكرا لها في ذات الوقت، يرفض تحرير نفسه من الأوهام، ويعتاد الحياة في الخوف والجوع والذل والمرض والجهل، حيث مؤسساته تعمل على تضخيم الفردانية والأنانية الاجتماعية. كل شيء قابل عنده للتسويق والبيع والشراء، أضاع فهمه الصحيح لذاته ولتاريخه، علاقاته قائمة على الشك والحذر على التنافس الصّحيِّ، يشعر بالعبث والضياع، ويعتاد على العنف ونفي الآخر مهما كان ذلك الآخر.
الصومال هو أول بلد ذكره أحمد منصور في التغريدة، وأقدم بلد (عربي-إفريقي) بعد الاستقلال مازال يقف خارج سياق التنافس والاقليمي والعالمي، بل أصبح من البلدان التي يُطمعُ فيها ويُتسابقُ عليها إقليمياً ودُوَلِياً، وهو أكثر بلد ما أنفك يدور في رحى الماضي لا يعيش الحاضر. فبعد مرور ثلاثين سنة من الانهيار الكلّي للدكتاتورية العسكرية، لم يذهب البلد بعيداً عن حافة الحروب الأهلية المُحزنة، وما يجري في (لاسعانود) حالياً هو المثال الصارخ لذلك، فكيف يكون حال الأنسان فيه بعد هذه الرحلة المُدمّرة الطويلة ذاتِ الأربعة عقود أو تزيد، فهل كما يقول” منصور” تم تدميره أي الانسان الصومالي؟ الإجابة عن هذا التساؤل يمكن الوصول إليها من خلال “تحليل خطاب” هذا الإنسان (أي الانسان الصومالي): خطابه الرسمي، وخطابة الإعلامي، وخطابه الثقافي. خطاب السياسيين، خطاب رجال الدين والمثقفين، خطاب شيوخ القبائل، خطاب جيل الشباب…الخ. فعلماء النفس يرون بأننا ومن تحليل هذه الخطابات، نتوصل إلى ما ورائياتها، و إلى القوى اللاشعورية الكامنة فيها، والتي هي بدورها تساعدنا على فهم أحوال الفرد والمجتمع بما يحتضنه من مجموعات بشرية متكونة من أفراد. وكذلك يرى الباحثون في علم اللغة الاجتماعي بأن هناك علاقة وثيقة بين الكلمات التي يستخدمها المجتمع يومياً – كتابة أو شفاهة – في مجالات الحياة المختلفة، والثقافة الواعية وغير الواعية، أي هناك علاقة وطيدة بين كل ذلك وبين وضعه في جميع المجالات، وأن تتبع تلك الخطابات وتحليلها قادرة على كشف المستور من الأبنية التحتية النفسية والاجتماعية والفكرية للعقل الجمعي لأفراد المجتمع.
لنأخذ على سبيل المثال الخطابات الثلاثة الأُوَّل:
أولاً: الخطاب المجتمعي بعد كل انفجار دموي يحدث في البلد،
ثانياً: الخطاب المجتمعي بعد أحداث لاسعانود،
ثالثاً: الخطاب المجتمعي عقب الندوة المفتوحة لفخامة رئيس جمهورية الصومال” حسن شيخ محمود” مع الشعب في تاريخ (1-5-2023م).
لنبدأ أولاً الخطاب المجتمعي بعد كل انفجار دموي: والذي يكون في غالبه خطاباً يتسلط عليه السلبية أو اللامبالات أو البرودة، والشعور بأن العقول التي يتكاثف عليها الضباب، غير قادرة في أن تفكر بشكل سليم له وجاهة، والقلوب التي تكثُر عليها الأحزان لا تشعر بالآلام بشكلٍ صحيٍّ، والإنسان الذي يكثر عليه الضرب، يتحجّر ويفقد إنسانيته. ولذلك تُشعرك الخطابات الصومالية على المستويات الثلاثة المذكورة، بأنها خطابات قد تجمّدت وتوقّفت عن الحركة والانتاج، وأنها في جُلّها الأعظم خطابات تنتظر من الآخر (أيّاً كان ذلك الآخر) أن ينتشله من وهدته التي هو أوقع نفسه فيها دون أن يكون له دور ومساهمة في ذلك، وكأنه خطاب يحرر فيه الانسان الصومالي نفسه من مؤهلات العمل وكدّه، وينتظر من الآخر من يعينه أمنِيّاً، ويرشده سياسياً ويُساعده إقتصادياً.
وأما الخطاب المجتمعي الذي أعقب أحداث لاسعانود: (في هنا، نحن لا نقول من أخطأ في حق من) وإنّما نحن في هنا لنقف مع الكلمات. الخطاب هنا يُنبئُك عن أنّ الإنسان الصومالي يُمكن له أن يلتهم أخاه التهاما، وبذلك، فهو يصنع له (لأخيه الصومالي الآخر) أنياباً وأظافر يدافع بهما عن نفسه وأهله وماله، ويقوم بمجازر يستخدم فيها أحدث وأقوى ما يملك من آلات الدمار. يفعل كل ذلك وهو يتباهى بها، ويدق الطبول ويتغنى بأن هذه الحرب من إرادة الله وقدراً منه لا مفرّ منها، يقتل ب”الله أكبر”، ويرى القاتل والمقتول كلاهما شهيدين.
وأما الخطاب المجتمعي الذي أعقب الندوة الحوارية المفتوحة لفخامة رئيس جمهورية الصومال” حسن شيخ محمود” مع الشعب في تاريخ( 1-5-2023م): يُدلّك بأن حُسنَ نيةِ ورؤيةِ شخصٍ واحد أوقائد واحد لا تكفي مهما كانت سليمة وصائبة، لأنّ الشك والريبة مازالا يحاصران المجتمع من كل النواحي. وهذا يدل على أننا لم نملتك بعدُ نظرة عميقة ولا رؤية بعيدة في مواجهة مشكلاتنا ذات الأبعاد المتعددة والمختلفة. ويبدو أنّنا نريد أن نعالج معضلاتنا الضاربة في أعماق تكويننا النفسي بالدوران حولها أو الافلات منها بدل مواجهتها برؤية بصيرة.
ومع القول المشهور للفيلسوف الإغريقي هرقليطس يقول “لولا الصراع ما كان التقدم”، إلّا أنّ الخطابات الصومالية في أبعادها الثلاثة سابقة الذكر تُخبرنا بأن الصراع يدمّر الإنسان الذي كان من المنتظر أن يصنع ذلك التقدم ويُفقده السعي أو الزحف نحو الحياة والبقاء، والذي كان من المتوقع أن يداوم الكدح نحو الإيجابية أي تجاه تحقيق العمران الكوني: أرضاً وانساناً، رغم كلّ المضادات لذلك ورغم كثرة الموانع في طريقه .