من التجارب التي لم أكن أتوقع أن كون جزء منها هي كانت قبل سنة ونصف عندما عصفت في المنطقة التي أسكن فيها في شمال الشرقي من الوطن، عاصفة من الاشتباكات مُسلحة حول صيغة تداول السلطة، حينها لم يبخل كلاً من الطرفين في جمع العدة وخوض الجولات القتالية دون اعتبار للسكان العزل، *سقط في هذه المُغامرات الطفولية قتلا بالعشرات*, ولم تنجح جميع محاولات الإصلاح بينهم، ولم يتبقى إلا ورقة شيوخ القبائل، وهي الورقة التي يُرهن عليها المجتمع الصومالي العشائري في بنيته كورقة كلمة الفصل في النزاعات المصيرية.
وفي الحال تحرك ما يقارب سبعة وعشرين شيخ قبيلة وعشيرة يترأسهم حسب طقوس العشائرية للمنطقة أعلاهم في الترتيب (الملك)، وقصتي بدأت معهم عندما أتاني اتصال يخبرني (بشكل لا يقبل النقاش) بأني تم اختياري لأكون ضمن الوفد النسائي المكون من أربع عشرة سيدة من عموم المنطقة، للاجتماع مع الوفد الشيوخ للتشاور في جلسة مغلقة، *هنا قفز في داخل الغرور الأكاديمي والفضول الإنساني معا، فدخلت في دوامة من النقاش داخليا انتصر في الجولة الأولى الشموخ الأكاديمي الذي ظل متمسكا بسؤال واحد (كيف أعود إلى الخلف وإلى أحاديث تحت الشجرة وأنا الذي من الله علي بمسار وتسلسل أكاديمي مختلف*)،
وبعدها بساعات أتاني اتصال آخر من متصلا غير الأول يؤكد بأن الموعد غدا، بلغته اعتذاري عن الحضور وأن هذه الأجواء جديدة علي وهناك من هو أنسب مني لهذه المهمة، لم يقبل المتصل اعتذاري وختم بعبارة (*رب كلمة منك تصلح جماعة وتمنع موت إنسان*) هنا أنتصر الفضول الداخلي الذي يريد من جانب أن يستكشف أحاديث تحت الشجرة، ومن جانب آخر أصبح الأكاديمي الداخلي يتقبل فكرة (رب كلمة تصلح).
أتي الصباح الموعود وحضر الجميع، *وكان الاجتماع الوحيد الذي احضره في عموم الصومال يحضر الحاضرون في وقته دون تأخير، ودون نقاط تفتيش، ودون مصطلحات اللغة الإنجليزية، ودون هواتف، ودون لقطات المُصورين، ودون ضجيج ودون اصوات عالية، ودون القاب أكاديمية، بل حمل الشهادات العليا من الطرفين كانوا أقلية والأكثرية حملت خبرات الحياة ودهاليز المجتمع الصومالي.*
استمر الاجتماع ساعة واحدة، وجمعت الجلسة الوفد النسائي والشيوخ فقط، فكاتب الملاحظات واحد منهم، والذي يحمل الميكرفون واحداً أخر، والذي يُدير الجلسة الملك الذي استفتح حديثه بأن مهمة هذه الاجتماعات التي يعقدونها من أطياف المجتمع *هو ان نسمع منكم ونكون لسانكم في أي قرار نُجمع عليه*، وبعدها توالت السيدات في الحديث وأي سيدة تتحدث فأمامها ثلاث أسئلة تٌجيب عنها دون مقدمات واستعراض مهارات (كيف ترى الاحداث- وما هو الحل – وكيف نطبق الحل)، *كان اجتماع عملي بدرجة احترافية.*
بعدها بسنة ونصف من هذا الاجتماع، حضرت أول جلسة جمعت بين رموز المنطقة مع أعضاء البرلمان المحلي، وكان هذا الاجتماع مثل الأول يُناقش قضايا مصيرية *لكنه كان عكس الأول في صفات الحاضرين*، فالجميع من حملة الشهادات العليا وأساتذة جامعات، وكان عكس الأول أيضاً إذ لم يحضر أي شخص في موعده، واستمر الاجتماع سبعة ساعات كاملة، وكانت اللغة الإنجليزية هي لغة الام والصومالية هي المتطفلة، لم يتوقف رنين الهاتف لحظة واحدة، الجميع كان في حركة خروج ودخول مستمر (لا اعلم لماذا)، استعرض الجميع خبراته ومهارته، والكل يعتقد أنه على حق، واصوت النقاشات كانت مرتفعة، والمُتحدث يتحدث وسط أصوات وهمهمات مجهولة المصدر.
قبل أن أخوض هاتين التجربتين كُنت من المُعجبين بالتجارب البرلمانية وكنت أرها نموذجاً للنضج الحضاري الذي وصلت إليه المجتمعات، لكن *بعد التجربتين أصبحت أسأل بصدق وبعيداً عن كُتب التنظير : من يُمثل الواقع الصومالي بشكله الصحيح، أحاديث تحت الشجرة التقليدية أم قِباب البرلمانات الحديثة؟ ام نعمل على اختراع نموذج لا يعرفه العالم لكنه يُجيب عن ذواتنا*.