رحل عن دنيا البشر فى يوم السبت بتاريخ السابع من جمادى الثاني لعام ١٤٤٤ هجرية ، الموافق ٣١ من شهر ديسمبر لعام ٢٠٢٢م ، ، الشيخ المؤمن ، والداعية المتجول ، والرجل الذى أعطى نفسه وماله لله ، الشيخ إسماعيل محمود ، ذلك الإنسان البسيط فى أخلاقه ، والعظيم فى شخصه ، والمؤمن فى قضيته ، والمتحرك فى كل مكان لأجل قضيته ، رحل بصمت ، ومات فى السعودية ، ولكنه ترك فراغا كبيرا فى الدعوة ، وخاصة فى جماعة التبليغ والدعوة فى القرن الأفريقي ، ومن الصعب وجود من يملأ هذا الفراغ ، ولله جنود أخفياء ، يختارهم بعناية لحمل دعوته ورسالته .
ذهب الرجل الذى كان يقول ما يؤمن به بدون خوف ، فيدخل على الحكام ويذكرهم بالله واليوم الآخر ، وأهمية التخفف عن الدنيا ، والإقبال على الله ، ويخرج من قصورهم كما دخل بدون أن يشعر من الداخل الهيبة منهم ، وما كان مهتما بما يقولون ، أو يملكون ، فكأنه يتكلم من الآخرة ، وليس من الدنيا ، رحل هذا الإنسان البسيط ، والمؤمن ، ولم يعد من أهل الدنيا ، والعجيب أنه ذهب بصمت .
رحل عن الدنيا رجل بكى طويلا ، وعرفته المساجد ، ومنابر الدعوة ، وأبكى الناس ، تكلم وأسمع ، سافر وبلّغ ، ورحل عن الدنيا رجل كان بصمته يذكر الناس صورة السلف الصالح ، وسمت الجيل الأول ، ربما لم يكن من أهل العلم ، ومن أهل التخصص فى الفقه ، ولكنه كان من أهل الزهد ، والزهد علم وسمت وموقف ، فكان عالما فى هذا الباب ، وذا سمت واضح ، وموقف شجاع من الدنيا ، وكان الرجل صاحب مبدأ واضح ، واختار طريق التبليغ والدعوة منذ بداية شبابه وتحرك فى كل مكان من القرن الأفريقي ، وأسس لجماعة التبليغ مراكز دعوية تنطلق منه جحافل الدعوة إلى العالم ، فأسس مركزا كبيرا مع إخوانه فى جيبوتى ، وفى مقديشو ، وفى هرچيسا ، وفى كل مكان ، وله شأن عظيم فى هذه الحركة ، كما له شأن خاص فى الشعوب المسلمة فى القرن الافريقي ، فهو عندى من مؤسسى الصحوة المعاصرة فى القرن الأفريقي .
رحم الله ذلك الجبل ، وكان مختلفا من كل الدعاة فى التبليغ فى العصر الحديث فى منطقتنا ، لم يكن من أهل الحضور عند الدنيا ، ولكنه كان يذهب إلى كل مكان ليُسمع ما يؤمن به ، ولم يكن مستعدا لبيع قضيته ، فتحدثت معه كثيرا ، وكان يحب حركة الإخوان بلا حدود ، وتحدث إلي أنها مدرسة تربوية وسياسية ، كما كان عضوا فعالا فى التبليغ ، وتحدث إلي طويلا عن أهمية جماعة الدعوة والتبليغ ، وأنها حركة قاصدة إلى الله ، ومهمتها الوصول إلى الناس البسطاء ، وأن الطريق إلى الله واحد ، ولكنه واسع ، وليس ضيقا ، وتحدثنا طويلا فى زمن الربيع العربي ، وكان سعيدا جدا بذلك ، وأتذكر حين التقيت به فى مطعم ( البركة ) فى جيبوتى فى عام ٢٠١٢ م ، وجلس معي طويلا متحدثا عن التغييرات التى تجرى فى المنطقة وقتئذ ، فعرفت أن الرجل ليس غائبا عن الواقع ، ولكنه ليس منفعلا مع القضايا الساخنة ، بل هو منفعل مع قضيته الآساسية ، ولله فى خلقه شوون ، وهذا يدل على فهم الرجل العميق ، والفقه السديد ، وغياب ( الأنا ) المتضخمة عنده ، والبحث عن المشترك .
لقد قابلته ، وأنا شاب صغير فى مقتبل العمر ، وفى مسجد ( الحاج ديدي ) فى الحي الثانى من العاصمة جيبوتي ، كنت آنئذ طالبا فى المعهد السعودي ، وبدأت طريق الدعوة ، وكنت أبحث عن الحقيقة ، بل وكنت متحمسا بلا حدود ، فقد زرت هذا المركز كثيرا مع بعض الطلبة الذين أتذكر منهم حبيب قلبى وعقلى الدكتور أبو بكر إبراهيم هلس رحمه الله ، والأستاذ حسين بلال حفظه الله ، وغيرهم ، واستمعت خطبه وكلماته ، وأحببت الرجل ، أحببت كلامه الموزون ، وبلاغته العميقة ، ولغته الإيمانية ، ولاحظت خطابه الروحي ، وحسه الإيماني ، وقراءته الزهدية ، وكنت معجبا أسلوبه فى الدعاء لرب العالمين ، وقابلت أكثر من مرة فى اجتماعات التبليغ فى جيبوتي ، وفى هرچيسا ، فرأيت الرجل شعلة من الحركة ، وقوة لا تتوقف ، وإنسانا لا يتعب ، ورجلا صابرا فى طريق القضية والدعوة .
عرفت الرجل عن قرب ، وكان كبيرا فى عقلي ، لم أكن معه على طول الطريق ، فكنت مختلفا عنه ، ولكنه كان قريبا من روحى ، وعقلى ، وكنت فى الرأي الآخر من الدعوة ، ولكنه كان عظيما عندى ، ومحترما إلى حد بعيد ، وكنت مهتما بالفكر والسياسة والدعوة والروح معا ، وكان هو مهتما بالدعوة والروح على طريق التبليغ والدعوة ، ولكنه كان قريبا من قلبى ، وكنت افكر طويلا فى عبقرية حياته الدعوية ، بل وكنت ألامس فى حركاته الدعوية الزهد والحب والعشق ، وأنا من الذين يهتمون بهذه المواضيع ، بل وأرى أن عظمة الدعاة فى هذا الباب .
عرفت فى الرجل زهد كبار الدعاة عند التبليغ ، وقرأت كثيرا عن السيد ابي الحسن الندوي رحمه الله حين كتب عن مؤسسي جماعة التبليغ ، وعن حياتهم ، ولم يكن عضوا فى الجماعة ولكنه تحرك بينهم ، وعاش معهم ، واصطحب كبارهم ، وتأثر بهم كثيرا ، وكتب عنهم حبا وعشقا ، فرأيت هذا فى الرجل الذى عاش بيننا كداعية متحرك لقضيته ، وقضيته دعوة الله فى فهم جماعة التبليغ والدعوة، ولاحظت فى حياته الدعوية ثباتا غير عادي ، وعدم التغير مع تغير الحياة ، كان جبلا من جبال الدعوة ، وشخصا زاهدا من زهاد العصر .
سلام عليك يا إمام الدعوة ، ورجل الصبر ، وصاحب الحكمة ، وعقل جماعة التبليغ ، سلام عليك يوم ولدت فى أرضنا ، وسلام عليك يوم ترعرعت فى ربوع بلادنا ، وسلام عليك يوم حملت كلمة الدعوة على طريقتك الجميلة ، وسلام عليك يوم وفاتك فى السعودية ، وسلام عليك يوم رحلت عن الدنيا ، وسلام عليك يوم تلقى ربك بإذن الله راضيا عنك ، واللقاء بإذن الله عند الحوض مع الحبيب عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام رضوان الله عليهم ، ومع الدعاة الصالحين .