بشاشيات:
بين العلن والسر.
لكل إنسان في هذه الحياة جانبٌ ظاهر يراه الناس، وجانبٌ خفيّ لا يطلع عليه إلا القليل من المقربين، و يعلمه الله وحده! وهذان الوجهان ليسا متعارضين دائمًا، بل متكاملان في تكوين الإنسان، كما يتكامل النور والظل في الصورة الواحدة.
فالإنسان في حياته العامة كائن اجتماعي، يتعامل وفق ما تفرضه الأعراف والمواقف. فيبتسم حين يتطلب الأمر ابتسامة، ويصمت حين يكون الصمت أنسب، ويُظهر من نفسه ما يتناسب مع مكانه ووضعه. في العمل يبدو جادًا ومنظمًا، وفي المجالس لطيفًا وودودًا، وفي العبادة خاشعًا متبتلًا. غير أن هذا كله يمثل جانبًا من شخصيته، لا يعكس بالضرورة حقيقة ما في داخله.
أما الجانب الآخر — وهو الأعمق والأصدق — فيظهر في لحظات الخلوة، حين يبتعد الإنسان عن الأنظار، وتزول عنه الأقنعة الاجتماعية. هناك، في الصمت والسكينة، يتجلّى معدنه الحقيقي: هل هو صادق الإيمان أم مجرد مظهر للتدين؟ هل يحمل في قلبه رحمةً وصفاءً كما يظهر للناس، أم يخفي قسوةً وكِبرًا؟ في هذا العالم الداخلي تُختبر الأخلاق على حقيقتها، بعيدًا عن التصنع والرياء.
وقد عبّر السلف الصالح عن هذه الفكرة بقولهم: “من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن خبّث سريرته خبّث الله علانيته.” فالباطن هو الأصل، والظاهر ثمرة له، كما أن الشجرة الطيبة لا تثمر إلا بما في جذورها من صلاح.
من هنا يتضح أن قيمة الإنسان عند الله لا تُقاس بمظهره ولا بكلماته أمام الناس، بل بما يحمل في قلبه من إخلاص ونقاء! فقد نستطيع خداع الناس بأقوالنا وأفعالنا، لكننا لا نخدع خالقنا.
ولهذا، فإن تهذيب النفس من الداخل أهم بكثير من تحسين المظهر الخارجي. فالإسلام لا يطلب من الإنسان أن يبدو صالحًا أمام الناس فحسب، بل أن يكون نقيًّا في سره، مراقبًا لله في خلواته.
فالقيم الكبرى كالصدق، والإخلاص، والعفة، والحياء، لا تُختبر في العلن، بل في الخفاء، حين لا يراك أحد إلا الله.
ومع ذلك لا يعني وجود اختلاف بين الظاهر والباطن أن الإنسان منافق، فشيء من الاختلاف طبيعي حيث تفرضه الحياة الاجتماعية واللباقة في التعامل. لكن الخطورة حين يتحول هذا التباين إلى انفصام أخلاقي يظهر فيه المرء بصورة المصلح وهو بعيد عن الإصلاح، أو يتحدث عن القيم وهو أول من يخالفها.
ولهذا كان من أجمل الأدعية النبوية التي تُعبّر عن التوازن بين الباطن والظاهر قول النبي ﷺ”اللهم اجعل سريرتي خيرًا من علانيتي”
فهو دعاء يدعو إلى الانسجام بين ما في القلب وما يُرى في العمل، ليكون الإنسان صادقًا مع نفسه قبل أن يكون صادقًا مع الآخرين.
فلنتوقف لحظة مع أنفسنا ونسألها بصدق: من نحن حين لا يرانا أحد؟ ما الذي نُخفيه في صدورنا؟ وكيف ستكون صورتنا يوم تُعرض السرائر أمام الله؟
هذه الأسئلة هي التي تُكوِّن جوهر الإنسان وتكشف حقيقته.
لا توجد صلة بين الصورة والمقال.