لم أتمكن من متابعة الفلم الوثائقي “سبع سنين” الذي أعدته قناة الجزيرة لبعض الانشغالات، ولكني وجدت أحد المشايخ المشهورين بالردود يصف هذا الوثائقي بأنه يحمل “دعوة صريحة للكفر والإلحاد!” ولم أستسغ استكمال حديثه، وسرعان ما توجهت إلى مشاهدته، فوجدته يناقش مسألة التوجهات الفكرية التي ظهرت على السطح بعد الثورات العربية كالإلحاد والتأثر بالتيارات المسلحة، ولم يكن الفلم إلا إنعكاسا لواقع مرير ربما كانت بعض الأفكار التي راجت في السنوات الأخيرة جزاء من حصاده المرّ.
استعرض الفلم بعض الأشخاص الذين ابتعدوا عن التدين واتجهوا إلى الشك أو الإلحاد، أو إلى العنف والتغيير المسلح، ولكنه بصراحة إختار عينة لا تستطيع أن تعبر عن قناعاتها أو أنها لم تصل إلى الحد الذي يمكن أن تتشكل لديها قناعات واضحة، وبمعنى آخر إبتعد الفلم عن دعاة هذه الأفكار المؤدلجين مما يؤكد أن الهدف لم يكن إلا استعراضا موجزا لوقائع هذه السنوات العجاف وما نتج عنها، ومن الملفت أن أغلب هؤلاء الشباب الذين تمت مقابلتهم كانوا في مقتبل العمر وقليلي الثقافة والخبرة وادعوا بمرورهم في صفوف المتدينين ومن المؤكد أنهم لم يجدوا محاضن علمية وتربوية حقيقية تتمكن من صياغتهم بصورة راسخة، وقد عبر أحدهم عن سبب اقتناعه بالعنف بقوله: “فوافق قلبا خاليا فتمكنا”، وماذا يفعل هؤلا الشباب المساكين إذا كانت الدولة تحارب الفضيلة والتدين وأهل الدعوة يحاربون فيما بينهم!، ويسمعون مقولات مثل أن فلانا رأى النبي في الرابعة، وأن النصر معنا، حيث أصبح النصر في نظر هؤلاء يرتبط بالأشخاص وهيئاتهم أكثر من ارتباطه بأسبابه المادية الشرعية، ويرون الدعاء والإبتهالات المتكررة ولم يجدوا النصر المزعوم!
ومن الممكن أن يتساءل البعض سبب هذا الجهل والخواء الروحي الذي تسبب إنحراف هذه الشريحة هل هي مسؤولية التيار الإسلامي أم هي مسؤولية عامة تتحملها حميع التيارات والمؤسسات التربوية؟، ومن المؤكد أن إختيار هذه الشريحة لم يكن عبثيا ولكنه يحمل دلالة واضحة تؤكد وجود خلل ما في المناهج التربوية لهذه التيارات الدعوية التي تعتمد التبديع والتفسيق على المخالف في داخل الصف الإسلامي وعدم احترام العلماء والتشدد في مسائل الخلاف، فضلا عن العيش في دور الضحية والخوف من المؤامرة الكونية والحكومة الخفية التي تنفذ ببرتوكولات حكماء الصهيون، مما يفرز جيلا جريئا على الفتاوى والردود وإلقاء التهم والجرح والتعديل، ولكنه لم يتسلح بآلة العلم الحقيقية، وفقير في الفقه والأصول وعلوم الآلة، وعندما يتعرض للشبهات والأفكار الفلسفية الرائجة لا يستطيع مواجهتها وسرعان ما ينبهر ويصيبه الشك.
ومن الصعب جدا محاولة منع الناس من مشاهدة ومتابعة الجديد في عصر الفضاءات المفتوحة وإسكات الآخرين بالدعاء عليهم، بل إن مواجهة الإلحاد والأفكار الدخيلة تحتاج إلى علاجات نوعية، وشجاعة في تصحيح الأوضاع الدعوية المهترئة وإعادة الاعتبار في الطريقة العلمية للخلاف من باب “ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق على مسألة” الإمام الشافعي. وقاعدة “لا إنكار في مسائل الاجتهاد”، وكذلك إعادة الاعتبار في احترام العلماء وعدم التعصب للمعاصرين وترجيحاتهم والازتهزاء بإجتهادات الأئمة الكبار.
إن ما أحدثته الثورات العربية وإظهارها عدم إعداد جيل متسلح بالعلم الشرعي ويستطيع مواجهة هذه التيارات الإلحادية الجديدة دليل على فشل النظام التعليمي الذي استخدمته الصحوة الإسلامية وجامعاتها في نصف القرن الأخير، وإذا أردنا الخروج من مخلفات سنوات السبع العجاف علينا أن نقلل أصحاب الفتاوى الفارغة “أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين” وأن نوجد صاحب العلم والإجتهاد والفتوى الذي يستحق أن نقول له أفتنا في كيفية الخروج من آثار هذه السنوات السبع العجاف.
وأختتم في كلمة للشيخ عائض الدوسري يقول فيها: لقد بين ابن القيم أن الناس حينما تتخبطهم الشبهات والشكوك، وتحيط بهم الطوائف المتعددة والمختلفة البعيدة عن الهدى ويغيب العالم الرباني الذي يهدي الناسَ إلى مسالك الأنوار، ولا يجدون من ينقذهم منها فإن عقولهم تضطرب بالشبهات، وتتأصل فيها، وخصوصا الأذكياء. يقول ابن القيم واصفا واقعا شبيها بما أتخوفه على شبابنا:
“فعظمت البلية، واشتدت المصيبة، وصار أذكياء العالم زنادقة الناس، وأقربهم إلى التدين والخلاص أهل البلادة والبله”!.
(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).