أثيرت هذه الأيام أسئلة عديدة حول أسباب التسيب الحاصل في القطاع الحكومي، وأسند كثيرون سببه إلى غياب المسؤولين الكبار عن مكاتبهم، ما يؤدي إلى الغياب التلقائي للآخرين الذين يعملون تحتهم.
وهنا أود أن أشارك معكم قصة حدثت معي في بداية تسعينيات القرن الماضي، حين بدأتُ العمل مع الهلال الأحمر الصومالي في بلدوين، وكنت آنئذ حديث عهد بالعمل، لكن كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلّم: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ»؛ لأنّه يصاحبه، ويأخذ معه وقتا طويلًا في المؤانسة والمحادثة، ويؤثّر فيه ويتأثّر به.
ورفقائي كانوا أقدم منّي في المؤسسة، وعرفوا دهاليزها، وتعوّدوا على التسيب بل يوصون بعضهم بعضا بانتهاجه، بوصفه نوعاً من الشطارة والذكاء الخارق.
كان من عملنا الإشراف العام على أوضاع النازحين الصحيّة، وتقديم الإسعافات الأوليّة للحالات الطارئة، وتوزيع المسكنات وحبوب الملاريا من خلال عيادة صحية متنقلة، وتحويل حالات الأمراض المزمنة أو الصعبة والحرجة إلى المستشفى، وكتابة تقارير يوميّة عن كل معسكر نزوره.
لكن ما ظلّ يحدث هناك كالآتي:
في الصباح نتجمع في مقر المؤسسة، ونجهز احتياجات ذلك اليوم، ونركب السيارة، وفور وصولنا إلى أطراف المدينة، معظم العاملين ينزلون من السيارة ويرجعون إلى المدينة، وفي اليوم الثاني يفعلون الشيء ذاته- وعلى التناوب- وأنا لا أفهم لماذا يحدث ذلك حتى أدركت الحيلة بعد شهور واقتديت بهم واتّبعت فِعْلتهم.
ومن الوقائع المؤسفة التي أتذكرها، أن جلّ العاملين نزلوا ذات مرّة، وبقي في السيارة ثلاثة أشخاص وسائق السيارة فقط، والعدد كان ثلاثة أضعاف ذلك تقريبا، بيد أن المفاجأة كانت حين جاءتنا مشرفة القسم في زيارة تفقدية مباغتة، وهي سيدة غربيّة، أرادت أن تتأكد من سير العمل، فإذا معظم العاملين غير موجودين، وهي رأتهم صباحا في مقر المؤسسة، وركبوا السيارة، والآن غير موجودين في ميدان العمل، أين هم؟ تسأل، لا أحد يجيب، الكلّ يتهرّب من الإجابة، وفهمت السيدة الرسالة.
المحزن أن الذي يراقب أداء عملنا أجنبي، والذي يخون عمله، ويتسيب منه ويريد أن يأخذ راتبًا بدون مقابل هو صاحب الوطن.
وكان المسؤول الأعلى في المكتب صوماليًّا يمارس عمله يوميا، وبأوقات أكثر من أوقات العمل ربّما، وهذه السيدة وغيرها الأجانب يعملون تحته، إذن أين المشكلة؟ هل المشكلة غياب المسؤول؟
لا، قطعًا.
المشكلة في رأيي متعددة الأوجه، وأولها: تربية البيت الهشّة، حيث لا يُربّي الأبناء -غالبا- بأن أداء العمل كما يجب من صميم قيمنا ومبادئنا، والرسول صلى الله عليه وسلّم يقول: «إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ»…. فلا يهمك غياب من غاب، أو إهمال من أهمل، أو حضور من حضر، وعليك أن تؤدي عملك كما يجب… هذه التربية معدومة غالبًا…
ثانيها: تشجيع المجتمع التحايل، وتمجيد الخداع، وتقديمه على أنّه من الشطارة أن يفعل العامل ذلك.
ثالثها: زميل العمل، الذي يوجهك حينما تأتي العمل وأنت جديد، ويقنعك بأن لديه أقدمية ويعرف المؤسسة أكثر منك، ويصوّر لك أن تصرّفاته كلّها حسنات، فما عليك أنت إلا الاتباع، إذا أردت أن تترقى في سلم هذه المؤسسة.
رابعها: الضغط الاجتماعي: كأصدقاء الحي، أو القرية، وكذلك معارفك وأقرباؤك الذين غالبا ما يسألون، متى تبني البيت، ومتى تشتري لفلان أخيك منزلا، متى تُرسل أبناء عمك إلى الخارج، ويسوقون لك أمثلة ممن اختلسوا أموالًا عامة، وحصلوا على ثروة هائلة بسرعة فائقة، يريدون منك أن تكون مثلهم، والمقارنة هدفها ليس العمل الجاد، بل التفكير الجدي في طريقة نهب الأموال العامة.
فإن لم تنجح في ذلك، فنجاحك في أخذ راتبك وأنت لا تعمل، دليل على نجاحك شخصياً، وبرهان على دهائك أو قربك من الجهات المتنفذة….
إذن؛ المشكلة ليست في غياب مسؤول أو حضوره، بل المشكلة غياب النزاهة وعدم تبجيل قيمة العمل وتشجيع الفرد على الفساد، ولا سيما في العمل العام !!
انظروا إلى المؤسسات الخاصة، هل يستطيع عامل أن يغيب عن العمل، لأن المدير لم يحضر، وهو يعرف أن عمله غير مرتبط عضويا بعمل المدير؟؟
لا، أبدا، بل يأتي عمله قبل الدوام أحياناً، حتى يُظهر ولاءه للمؤسسة، ويحاول بقدر الإمكان أن يثبت للناس أنه ملتزم بأداء عمله، إذن لماذا القطاع الحكومي يُبرَّر له التسيب، بمجرّد أن الوزير أو نائبه، لم يحضرا مثلا؟ هل من حق الآخرين التغيب إذا غابا؟ من أين جاءت هذه المعادلة؟.
أليس هذا أمراً عجيباً؟.
هذه المعادلة في رأيي عرض مختصر لتصورنا عن العمل العام لا غير ……
















