كنت أقرأ اليوم قصيدة المتنبي (لا خيل عندك تهديها ولا مال)، وهي قصيدة يمدح بها المتنبي فاتكا الإخشيدي. وكان فاتك هذا شجاعا غاية في الشجاعة، حتى لقبه خصومه بالمجنون. ولكنّ ابا الطيّب – طيّب الله ثراه – حين أراد مدح فاتك لم يعمد إلى إخفاء هذا اللقب، كما هو متوقع في مثل هذا المقام، أي مقام المدح، وإنّما ذكره باللفظ الصريح، ولكنه -بعبقريته الفذة – استطاع ان يكسو هذا اللقب معنى شريفا وعميقا، على غير ما اراده خصومه، اِذْ قال:
وَقَدْ يُلَقبُهُ المَجْنُونَ حاسِدُهُ … إِذا اخْتَلَطْنَ وَبَعْضُ العَقلِ عُقالُ
أَنالَهُ الشَّرَفَ الأعْلى تَقَدُّمُهُ … فَمَا الَّذي بِتَوَقي ما أَتَى نالوا
فهو هنا لم يكلّف نفسه بإنكار الجنون في ممدوحه، ولكنه قلّب المعنى على الخصوم؛ فجعل الجنون ليس في ذهاب العقل والخفة، وإنّما في ساحات الوغى، حين تحجم الأبطال عن الإقدام، ثم يتجه بالنقد إلى العقل نفسه؛ لأنه يخونك في بعض المواقف، حيث يقول (وبعض العقل عقال)، فالعقل عقّال، يعقلك أحيانا عن الفعل حيث يجب الفعل، ويأمرك بالإحجام حيث يلزم الإقدام، ويزيّن لك التعقل حيث يحسن التجنّن، وذلك في ميدان الدفاع عن العرض والشرف والحرية والكرامة. وفي البيت الثاني يشير المتنبي إلى أن هذا التقدم في ميدان المعركة الذي يعدّه المثبطون جنونا هو ما أنال ممدوحه الشرف الأعلى، ثم يتساءل على سبيل الاستنكار ما الذي ناله خصوم ممدوحه من الشرف بتعقلهم وخوفهم عن خوض غمرات الوغى؟!
خطر في نفسي وأنا أقرأ هذه المعاني سيرة العظماء الذين وقفوا في وجه الظلم والطغيان على مرّ التاريخ، واتهموا زورا بالجنون. ومما يحزّ في الصدر، ويوجع القلب أن هذا الاتهام لا ياتي دائما من الخصوم، وانما يأتي في كثير من الأحيان – للأسف الشديد – ممّن ضحّى هؤلا العظماء حياتهم من أجل حياتهم، وتعرضوا للموت والسجن والبطش من أجل حريتهم وكرامتهم. ولا نذهب بعيدا، وإنّما نكتفي بمثالين قريبين، أحدهما على مستوى وطننا القطري الصومال، والآخر على مستوى أمتنا الاسلامية ، ففي الأول كان الإنجليز يصف زعيم حركة الجهاد في الصومال السيد محمد عبدالله حسن بالمجنون، لأن المستعمر لم يخطر في باله أن يتحدّاه أحد في جبروته وعربدته، ولما عارضه السيد، وقال له: لا، استكبر الإنجليز ذلك واستعظمه، وعدّه من الجنون الذي لا يصدر عن عاقل يدرك قوة الانجليز وتفوقه في العتاد والدمار، ولكن الإنجليز لم يدرك أن السيد كان يفوقه في قوة الايمان وقوة الحق والعدل. وعل كل حال، فالإنجليز خصم، ونفهم ما يجنيه من وراء إطلاق مثل هذه التهمة على من عارضه، وأجهض أطماعه، ولكننا لا نفهم كيف تنطلي مثل هذه الألاعيب على بعض من أبنائنا الذين تلقّفوا هذا الهذيان، وآخرها -للأسف – زلّة الرئيس الصومالي الأخيرة في مقابلته مع العربية.
أما على مستوى العالم الإسلامي، فإنه يكفينا أن ننظر إلى ما يحدث أمام أعيننا اليوم في غزة، قلة قليلة من أبناء هذه الأمة اختارت أن تقف في وجه الظلم والطغيان، فوصمهم العدو بسمة الارهاب، وهذا ليس مما يستدعي العجب والاستغراب، وإنما تذوب النفس حسرات، لما ترى الظلم يأتي من ذوي القربى في الدين وفي الوطن، حين يصف بالارهاب هولاء المجاهدين الذين يدافعون عنه وعن كرامته وعن حريته، وهو جالس في أريكته، وماذا يضيره لو سكت، وليس له من الأمر شيء؟! وهلّا استجاب لنصيحة الرسول للرماة يوم أحد، لما قال لهم: (لا تبرحوا أماكنكم، إن رأيتمونا نُهزم فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نُنصر فلا تُشاركونا) مع الفارق في القياس في الحالتين؛ ففي أحد كان الرماة يبرحون مكانهم؛ ليحموا ظهر المسلمين، وفي غزة يبرح هؤلاء مكانهم، ليطعنوا ظهر المسلمين، وفي كل مبارحة، وشتان ما بين المبارحتين.
فوالله، لولا جنون قلّة من العظماء في التاريخ، ومواجهتهم الظلم والاستعلاء، وكفاحهم في سبيل حريتهم وكرامة أمتهم، لما ذقنا طعم الحرية، ولا دفعنا عنا صائلا، ولا نصرنا مظلوما، ولو كان التعقّل في مواقع التهوّر ينجي، والجبن في مواطن الإقدام يجدي، لكنّا اليوم سادة في الأولين والآخرين، ولكن أبى الله إلا أن تجري الأمور على سننه في التدافع، والتاريخ لا يكتبه المتخاذلون، وانما يكتبه العظماء في مداد من دمائهم ونفوسهم العظيمة.
يُكَلِّفُ سَيفُ الدَولَةِ الجَيشَ هَمَّهُ … وَقَد عَجَزَت عَنهُ الجُيوشُ الخَضارِمُ
وَيَطلِبُ عِندَ الناسِ ما عِندَ نَفسِهِ … وَذَلِكَ مالا تَدَّعيهِ الضراغم
الكاتب / عبدالواحد عبدالله شافعي