كثيرا ما كنتُ أسمع من الوالد بركة أهل مكة والحرمين ،وعند قراءة بعض الكتب والمصنّفات يقول المؤلف:” أنّه ألف كتابه تجاه الكعبة المشرفة تبركا “، كما روي عن صاحب الاجرومية التي طارت مقدمته في الآفاق ، ووصفها العمريطي بقوله
وَانْتَفَعَتْ أَجِلَّةٌ بِعِلْمِهَا. ** مَعْ مَا تَرَاهُ مِنْ لَطِيفِ حَجْمِهَا
فتلك المؤسسة الميمونة العتيقة أسّسها وأنشأها جمع من الدعاة،وقادة أعيان المجتمع الصومالي في ولاية بونت لاند، وفي المدينة الساحلية بوصاصوا 1999هـــ، ولقد تمّ وضع الحجر الأساسي لبناء المدينة الجامعية في صبيحة يوم الأربعاء 1/3/2000م وتوالت الانجازات وافتتاح الكليات واحدة تلو الأخرى، واستقطبت الراغبين في تعلّم العلم و بناء المستقبل الأكاديمي ،فعمّ خيرها ونفعها الكون الفسيح في الصومال وفي ولاية بونتلاند ، فمن طلابها اليوم الأمريكي والإنجليزي من صوماليي المهجر، وأمّا أساتذتها فمنهم الأسوي والأفريقي،ومن الدول العربية الشقيقة وغيرها، واليوم بعد عقدين من إنشائها قلّما تجد بيتا في بونتلاند إلّا فيه خريج أو خريجة من جامعة شرق أفريقيا لا سيما الجيل الجديد، أما المؤسسات الحكومية والهيئات التجارية والمنظمات الدّولية فلهم القدح المعلى.
أولئك قوم إن بنوا أحسنـوا البنـى * و إن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جـزوا بهـا * وإن أنعموا لا كدروهـا ولا كـدوا
إن الهمّة العالية قرينة للحكمة فمن أسسوا الجامعة كانوا حكماء،وكان الدكتور عبد القادر محمد عبد الله رئيس الجامعة-رحمه الله -اختار الرجوع إلى البلاد طوعا لخدمة الأمّة الصومالية ،ورحل من أمّ القرى -حرسها الله -وأسكن أولاده وأهله -الذين ولدوا وترعرعوا في مكة المكرّمة- مدينة بوصاصو ،وتلك تضحية ومن مناقب العلماء، فتخرّج أولاده من جامعة شرق إفريقيا،مع أنه كان يمكن إرسالهم إلى الخارج، ولكن آثر أن يعيشوا مع أقرانهم وبني جلدتهم ، لقد كان عالما زاهدا وورعا قاد المؤسسة بإتقان إلى أن تطورت واستوت على سوقها وأينعت ثمارها – (1999-2008) مع زميله نائب رئيس الجامعة فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الحاج عبد الرحمن-رحمه الله- العلامة الموسوعي الذي تلمذتُ بين يديه أيام وجودي في مدينة بوصاصو درس لنا فقه الفقه المقارن ، وكان يدرس لنا الدرسات العليا قسم الفقه وأصوله لكليّة الشريعة والدراسات الإسلامية، كان حافظا عبقريا ومن أوعية العلم، يدرس لنا عن ظهر قلب ، يورد جميع النصوص الواردة في الباب وأقوال أهل العلم بإيجاز وبأسلوب رائع، اغتالته يد الغدر صبيحة الخميس عام 2011م ،ولا غرو في ذالك فتلك ميتة العظماء بدأ من الخلفاء الراشدين خلا الصديق رضي الله عنهم ،ونصح الدكتور الأمة حيا وميتا ،غفر الله له وأدخله الفردوس الأعلى ،
لقد عشتُ وعملتُ في جوّ من العلم والتعاون على الخير قال تعالى:(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.) المائدة:2،
وفي بيئة تعليمية يسودها العمل الجادّ لا الثرثرة التي يجيدها كل أحد، مع خبراء وكوادر اشتغلوا من دول عدّة، وعمداء عندهم تجارب من مجالات متعددة، فمنّا داعية علامة،أوطبيب ماهر أومهندس بارع ، أومدير فعال لهم دور نشط في كل مناحي الحياة لا تملّ من حديثهم ،وتستفيد من قصصهم في الحياة:
لنا جلساء ما نملّ حديثهم *** ألبّاء مأمونون غيباً و مشهداً
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى **و رأياً و تأديباً و مجداً و سؤددا
أتذكر عند بداية انشاء كلية الطب واستشارة الأطباء في البلاد في المشاركة في تدريسها لتوريث الجيل الناشي لخبراتهم مع أنّ أكثرهم كان على أعتاب السبعين ، وأن توريث العلم للمجتمع خير وأفضل من توريث مال لفرد من أفراد الأسرة، وأخيرا وافق الجميع بعد شدّ وجذب إمكانية ذالك، وافتتحت الكلية ،والحمد لله اليوم خريجوا كلية الطب من جامعة شرق افريقيا ينافسون نظرائهم الذين تخرجوا من جامعات العالم، وأكثر الكوادر الطبية الشبابية من ذالك الجيل فجزي الله خير الجزاء مجلس المؤسسين، و مجلس أمناء الجامعة الذين انبثقت منهم الفكرة وأصبحت اليوم شجرة باسقة يستظلّها الجميع، وقديما قالوا:” رب همّة أحيت أمة”
اليوم وفي عام 2020 بلغت عدد كلياتها تسع ،مع أقسام الكليات التي فاقت ثمانية وثلاثين قسما ،وفروع الجامعة تسع في ربوع البلاد ، ولها معاهد ومراكز تابعة لها،وأنشأت قريبا كلية الدراسات العليا ، والمسيرة مستمرة ،
وما خاب ذوجدّ إذا هو حسبلا ،
فالشخصية الصومالية شخصية عبقرية يمكن لها عمل أنشطة جبارة قد يراه بعض المستشارين الأكاديميين مستحيلا، انطلاقا بأنه لا حياة بعد فشل بناء الدولة الصومالية القوية ،ودخول الصومال في متاهات حروب أهلية ثم دويلات لا تقدم للشعب شيئا يذكر.
فالمؤسسة أهلية وقفيّة غيرربحيّة، لها شخصية اعتبارية،وفاقت نظيراتها من الجامعات التداول في الإدارة وتبادل الأدواربين الأجيال ،وانتخاب إدارة جديدة بعد كل أربع سنوات،لتحديث الأنظمة والمواكبة مع متطلبات العصر مما يجعلها تتطور، وتستمر في العطاء اللامحدود .
فأعطاهُ ربُّ العرْشِ مجدًا ورفْعة**هو اللهُ يُعطي مَنْ يشاءُ ويَحرمُ
إن العمل المؤسسي له فوائد عدّة، لخدمة الشعب فهو مظلة تجمع أعيانا كثيرة، وخبراء في شتى مجالات الحياة ،والمؤسسات التعليمية مأوى العلم والعلماء التي تنقذ أجيالا كثيرة من براثن الجهل والضياع ،ولو أردت حلّ مشكلة شعب ودولة فجاهد في التعليم فقط، ثم التعليم فقط ،كثير من الشباب تخرجوا من ثانويات البلاد والتحقوا كليات جامعة شرق إفريقيا ،ففي الأسبوع الأول في برامج وحفلات الاستقبال لطلاب الجدد كثيرا ما أقدم لهم محاضرة بعنوان صفات الطالب الجامعيّ فأقول ” أن العلم مفتاح الحياة ،وأن القراءة مفتاح العلم وأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة اقرأ، قال تعالى في أول آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) العلق:1-5،
بعد سنوات أرى ذاك الطالب أو الطالبة تخرّج ويعمل في أحد المؤسسات، ويستقبلني بحفاوة، ومنهم من كان يعمل في المطار والميناء وأصبح محترفا ونشطا في سوق العمل ، بينما من أقرانه من اختطفته دعاة الشرّ فأصبح عبأ على الأسرة والمجتمع
ومنْ لم يذق مرَّ التعلمِ ساعة ً** تجرَّعَ نلَّ الجهل طولَ حياته
ومن فاتهُ التَّعليمُ وقتَ شبابهِ*** فكبِّر علــــــــــيه أربعاً لوفاته
الحياة مدرسة والعمل مفتاح التميّز، ومهنة التدريس مهنة ممتازة ،
ففي القرآن الكريم قال تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) مريم 31، قال المفسرون: “مباركا” أي معلما للخير، وهي أفضل طريقة للدعوة ونشر العلم في العالم المعاصر اليوم ،
إن المعلّم الناجح يراعي الفروق الفردية بين طلابه ،ولا يكون صعبا قويا ولا ضعيفا ليّنا ، فالتوسط محمود في كلّ الاحوال .
تَسَامَحْ ولا تستَوفِ حقَّك كلَّه **وأبقِ فلم يستَقْصِ قطُّ كريمُ
ولا تَغْلُ في شيءٍ من الأمر واقتَصِدْ**كلا طَرَفَيْ قصدِ الأمورِ ذميمُ
إن تصحيح ورقة الامتحان أمانة، وكفيلة لاكتشاف المواهب الفذة في عقول الطلاب ،فمنهم من يجيب ويسترسل في الإجابة ، وآخر بإجابة موجزة ومفيدة لا تخطر ببالك بينما ثالث لا يدري ويكتب ها ها، ومتفنن في التسول والدعاء للمعلمين كلّهم أجمعين،
مرَّت بي الأعوامُ تتلو بعضَها **وأنا كأني لستُ في الأعوامِ
وأخيرا بعد عقد من العطاء، من يوم 21-11-2007م، إلى صبيحة 5-1-2021م و بعد تخريج مهندسين بارعين، ودعاة مرشدين ،وأساتذة حملوا الراية بعدنا ، فارقتُ ذاك الصرح العلمي لمواصلة الدراسات العليا الدكتوراة في ماليزيا الخضراء ولكن جائحة كورنا حالت دونها . وكم بالكرونا من قتيل ومحجوزمحرم.