في السادس والعشرين وفي الثالثة صباحا من شهر ديسمبر الماضي، طلبت سيارة اجرة باستخدام تطبيق أوبر عبر الهاتف، لتقلّني الى مطار جومو كينياتا في رحلة الى مقديشو. كان السائق صوماليا، فزاد ذلك من شعوري بالطمأنينة، رميت حقيبتي الصغيرة في المقاعد الخلفية للسيارة، وارتميت على المقعد الأمامي الى جانب السائق، وما إن استويت على مقعدي، حتى خضنا الأحاديث، وتجاذبنا اطرافه في موضوعات مختلفة خفيفة، كشأن الاحاديث التي يتبادلها رفقاء صحبة اضطرارية قصيرة. كان شابا لطيفا يحسن الاصغاء ويحسن الحديث، سألني كيف حالك يا عم؟ أذني قد تعودت الآن على مناداتي بالعم من الشباب والشابات، وقبلت بطيبة نفس كل ما ترمز اليه هذه الكلمة من التوقير الظاهري والتلميح الباطني، بعد سنوات من الاحتجاج الخفي، والانقباض النفسي، وعدم التصديق بان الدهر قد أسرع بي خطاه، حتى صرت عمّا لرجال قد بقل وجههم، ونساء قد غاض ماء الحياة على وجناتهن. إنها سخرية الدهر الذي لا يرحم ولا يبالي.
كانت الاجواء في الطريق الى المطار هادئة، وشبه خالية من المارة ومن السيارات، وكل شيء يوحي بالهدوء والطمأنينة، عجبت كيف ان هذه المدينة المزدحمة بالناس وبالسيارات، وتضج بالحياة طرفي النهار وزلفا من الليل، كيف تبدو على هذا السكون الرهيب واللامبالاة الفجة، فقلت: إن الانسان هو الذي يبث الحياة في نفس المدن، فإذا ركن هذا الانسان الى الدعة والراحة والنوم، خلت المدن من الحركة والحياة فتركن معه الى السكون والنوم، وهكذا حياة المدن والحضارات في التاريخ مرتبطة بحياة الانسان وسعيه ونشاطه وحركته الدائبة لاستجابة التحدي الذي تفرضه عليه سنن الطبيعة وابتلاءات الحياة.
ولما دنونا من المطار قال لي السائق متى تقلع طائرتك يا عم؟
-في السادسة والنصف.بكّرت يا عم !
-لم يأن وقت رحلتك بعد، كان الأفضل ان تأتي بعد ساعة او ساعتين.
-ولكنهم قالوا حتى تكمل إجراءات السفر لا بد ان تصل الى المطار فبل ثلاث ساعات من وقت الإقلاع.
ههههه، هولاء يقولون ذلك دائما ولكنهم لا يعنون بما يقولون !
سكتّ برهة، وما زالت صدى كلمته الأخيرة تتردد في دهني (هولاء يقولون ذلك دائما ولكنهم لا يعنون بما يقولون !) هذه من مصائبنا أمتنا ! أمة لا تعني ما تقوله لجديرة الّا يهتم العالم بوجودها، ولا يأخذها مأخذ الجد في تهديداتها الفارغة بتحرير القدس، ومن لا يقدر على تحرير نفسه من ظلم الطغاة واستخفافهم به وبانسانيته فلن يقدر على تحرير القدس.
نزلت من السيارة، وودعت الصديق السائق، ودخلت صالة المسافرين، فإذا هي شبه خاوية الا مني ومن بعض رجال الأمن ورجل وامرأتين ممن اصابتهم غفلة الصالحين مثلي، فقلت: لقد صدق السائق: انهم يقولون ما لا يفعلون. جلست على كرسي في الصالة، ودخلت في مكتبي العامرة بكتب البي دي اف، واستخرجت منها كتاب (الاسلام بين الشرق والغرب) للمفكّر الرئيس علي عزت بيجوفيتش، ورايت أن الرئيس على عزت افضل صحبة في هذا اليوم العصيب، فكنت في هذا الجو المكتئب والنفس المتضايقة في حاجة الى روح شفافة تزيل عن نفسي بعض ما شابها من الكدر والضيق.
فكرة الكتاب الاساسية هي شرح الوجود الثنائي للانسان، من المادة والروح، من طينة الارض ومن نفخة السماء، وكل محاولة لاقصاء عنصر من هذين العنصرين يفضي الى خلل في فهم جوهر الانسان وطبيعته، ومن ثم معرفة دوره في هذا الكون، والاسلام خير من يؤلف هذين العنصرين، ويجمعهما في تناسق مضطرد، وتوزن عجيب، يراعي فيه حاجات الانسان المادية والروحية، دون ان يطغى احدهما على الآخر، بينما في المسيحية غلّبت الحياة الروحية للإنسان، واهملت الجانب المادي منه، وعلى العكس ركزت اليهودية وكذلك المذاهب المادية المعاصرة على الجانب المادي منه وقلّلت من اهمية الروح، بينما الاسلام هو الدين الذي آخى بين العنصرين المادي والروحي في الانسان وعمل على تلبية حاجات كل منهما. ومما لفت انتباهي موقف علي عزت من الفنون؛ اِذْ انه كتب مباحث ماتعة في العلاقة بين الفن والدين، ويرى ان الفن والدين من مشكاة واحدة، فكلاهما ينتميان الى عالم الروح، بيننا العلم ينتمي الى المادة “يوحد عالمان: عالم للآلة، وعالم للموسيقى، لا يمكن إرجاعهما إلى أصل مشترك. فالعالم الأول مركب حيزي كمي مكون من العلاقات والأجزاء وفقا لمنطق علم الطبيعة والرياضيات، والعالم الآخر يشتمل على تركيبة من الأنغام والكلمات المنظومة في لحن او قصيدة، وينتمي هذان العالمان إلى مقولتين مختلفين: هما العلم والدين، وفي هذا السياق بالذات نقول: ينتميان إلى العلم والفن”. فهم عميق للفنون، ومتجاوز للنظرة العامية السائدة لجوهر الفن ورسالته في مجتمعاتنا، حتى في اوساط بعض العلماء والمثقفين.
لقد أبهرني حقا تحليله لجوهر الفن، وشرحه المستفيض للصلة الروحية بين الدين والفن، وهو موقف عجيب، لم أقرأ قبله من عرض لهذا الموضوع بهذا العمق وبهذه الروح الفنانة التي تدرك الجمال وتعشقه وتربط بين الجمال الإلهي وبين جمال مخلوقاته في سيمفونية عجيبة متناسقة. ولو لا هذه العقول الكبيرة في هواتفنا نحلس إليها نحادثهم ويحادثوننا، لوقعنا ضحايا هؤلاء الذين يقولون ما لا يفعلون، ولبقينا في صالات الانتظار نلعنهم ونلعن حظنا الذي قادنا الى من لا يرى لقوله مقصدا ولا للإنسان ووقته قيمة. شغلني علي عزت رحمة الله عليه، وغبت عن عالمي المحسوس، وما يحدث حولى من حركات المسافرين واضطرابهم، مستغرقا في عالم آخر روحي مختلف لا اضطراب فيه ولا حركة، وانما هو سكون وهدوء ولذة، فما راعني الا طابور للمسافرين طويل ممتد، فكنت بذلك أول من وصل، وآخر من التحق بذيل الصف، فلم اندم ولم أعاتب الشيخ الرئيس علي عزت، وإنما شكرته شكر من أنقذ روحي من الغرق في بحر السآمة والكآبة، فانتظمت في صفي راضيا مغتبطا بما اقتطفته من الفوائد في مجالسة بيجوفيتش، وما التقطته من الثمار في حدائقه الزاهرة، مما أنعش روحي الفاترة، وأنبت السرور في نفسي القاحلة.
أكملت الإجراءات الأمنية وتفتيش الحقائب، وانتقلت الى صالة الانتظار الأخيرة، وهنا استأنفت الحديث مع شيخنا علي عزت من حيث انقطع، وما انتبهت الا على صوت إمام يقرأ القرآن، فإذا هناك صفوف طويلة لصلاة الصبح في وسط الصالة، منظر عجيب ورهيب ! فمن ذا الذي يجرؤ على اقامة صلاة جماعة وسط صالة المسافرين الا الصومالين؟!، إنهم اذا حضرت الصلاة فلا يبالون ببرتوكولات ولا نظام ولا صالة للانتظار، وانما يقيمونها حيث ادركهم وقتها. وهذه اللامبالاة ما نفعت صديقي الشاعر أبو الطيب المتنبي حين قال: (لأني ما انتفعت بأن أبالي)، ولكنها أي عدم المبالاة نفعت الصوماليين، فبها فتحوا المساجد في اوربا، ونشروا النقاب، وأقاموا مراكز العلاج بالقرآن.
أقلعت بنا الطايرة في الساعة الثامنة صباحا بدل السادسة والنصف كما كان مكتوبا في التذكرة، فلم يعتذر أحد من طاقم الطائرة، وكأنه لم يقع شيئ يستحق الاعتذار! لرحلة بين نيروبي وبين مقديشو رحلة قصيرة ساعة ونصف تقريبا، وددت لو أنها طالت قليلا حتى تطول مجالستي مع علي عزت.كانت الطائرة تابعة لشركة فريدم (الحرية) للخطوط الجوية، فلم تكن مريحة، ومع أن اسمها الحرية، فإن كل ما فيها يناقض اسمها، ويوحي الى الضيق والانحباس، فالكراسي ضيقة، والممرّات أضيق، ووجه المضيفات يوحي بالضيق والملل. وما ان استوت الطائرة على خطها، حتى خرجت المضيفات على وجوم، يوزعن الافطار على عجل، ثم انصرفن بهدوء، فلا ابتسامة ولا سرور. عادت بي ذاكرتي إلى اغسطس عام ١٩٩٠ ، حين وجدت منحة دراسية من ليبيا، ورحلتي اليها عبر القاهرة على الخطوط الجوية الصومالية، فلا ازال مع مرّ السنين أذكر جمالها الباذخ، وفسحة ممراتها، وعبق شذاها، حتى انني لأجد عرف ربحها بعد كل هذه السنين، وأذكر جمال مضيفاتها الصوماليات، وملامحهن البريئة التي تمتلئ ثقة وكبرياء، وابتسامتهن الفاتنة، ملامح سمراء رقيقة عذبة، تسر النظر، وتشرح الصدر، وتفتن القلب، ذكريات مفعمة بالأمل والرضا، ومتخمة بالعزة والشموخ.
عدت الى (الاسلام بين الشرق والغرب) والطائرة تسبح بنا بين السماء والأرض، فخطر في بالي أن مراعاة التوازن بين حاجات الإنسان المادية والروحية الذي يدعو اليه المفكر الرئيس علي عزت في كتابه قد يكون قانونا عاما في مخلوقات الله؛ فهذه الطائرة نفسها تخضع لهذا القانون، ولولا مراعاة التوازن في ارتفاعها وهبوطها لا ستحال طيرانها. وكذلك الإنسان إذا فقد توازنه وأهمل جزءا من عناصر تكوينه لاستحالت حياته الى جحيم لا يطاق، والشمس تحري لمستقر .. والقمر قدرناه منازل … والكون كله في توازن عجيب ( وكل في فلك يسبحون) فاذا اختل هذا التوازن فسد الكون واختل نظامه. يرى علي عزت ان المسيحية دين يعنى بالجانب الروحي فقط، لذلك كان عيسي عليه السلام يرفض ان يدخل القدس، لان فيها الكفار والمنافقين وأصحاب العقائد الفاسدة، بينما كان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء، ثم يعود إلى مكة مدينة الكفار، ليدعوهم الى الاسلام، فالاسلام كما يرى الشيخ الرئيس بيجوفيتش دين واقعي لا مثالي، ينزل الى واقع الناس لتغييره وإصلاحه. وقد سجلت في الهواء هذه الفقرة التي تلخص جوهر فكرة الكتاب “كان لا بد لمحمد ان يعود من الغار فلو انه لم يعد لبقي حنيفيا، ولكنه عاد من الغار، وشرع يدعو الى الاسلام. وهكذا تم الامتزاج بين العالم الجواني وعالم الواقع، بين التنسك والعقل، بين التامل والنشاط. لقد بدأ الاسلام صوفيا، وأخذ يتطور حتى صار دولة، وهذا يعني ان الدين قد تقبل عالم الواقع وأصبح إسلاما”.
بعد ساعة أعلن طاقم الطائرة أننا قد اقتربنا الآن من مقديشو، والطائرة ستبدأ بالهبوط التدريجي، وهنا ودّعت صديقي ورفيقي بيجوفيتش رحمه الله وبرّد مضجعه ونوّر له قبره، فإنه في تأكيده الى أهمية التوازن في حياة الإنسان، فقد ساعدني على حفظ توازني في رحلتي هذه، وجعلني أدرك أن التوازن هو قانون عام من نواميس هذا الكون بدءا من طائرتي في الهواء الى كل ذرة من هذا الكون الفسيح. ما أحوجنا الى رؤساء مثقفين، يحملون الفكر قبل ان يحملوا همّ المناصب، فقد ابتلينا برؤوس فارغة، ترى الحكم صيدا ثمينا لارضاء الشهوات واذلال الشعوب. بدأت الطائرة تهبط وتخترق السحب البيضاء التي كانت تمر مرّا سريعا، كأنها تحيينا وتودّعنا. سرحت بصري عبر النافذة، كانت الطائرة تحلق فوق المحيط الهندي وامواجه المتلاطمة، كأنها تتزاحم وتتبارى على الترحيب بنا. اقتربت الطائرة اكثر من مياه المحيط، حتى ظننت انهما سيتعانقان، فأغمضت بصري حتى سمعت ارتطام عجلات الطايرة بالأرض.
وصلنا مطار آدام عبدالله الدولي. كان الجو صافيا ومنعشا. ولما وقفت على سلّم الطايرة، شعرت بنسيم عذب من المحيط الهندي يداعبني، ويرسم قبلات لذيذة على وجهي، دفء اشعة شمس مقديشو، وقبلات نسيم محيطها الهندي، بعثا السرور في نفسي، وأزاحا عن جسمي آثار برودة لندن وجوّها المكفهر. ومع اني مكثت اسبوعين في نيروبي، فإن شمسها لم تكن قوية بما يكفي لإذابة صقيع لندن، ولكن ضربة واحدة من أشعة مقديشو كانت كافية، لإزالة الجليد وإنعاش نفسي المتعبة، وتقوية عظامي البالية، التي نخرها البرد وأضناها الحنين. دخلت صالة الوصول، فاذا ثَمّ طابوران: أحدهما للمواطنين والآخر للأجانب، فانضم معظم الصوماليين الى طابور الأجانب، ولم ينتظم في صف المواطنين الا قليلا، يا لسخرية القدر، صرنا أجانب في بلادنا ! ما اقسى ان تحنّ الى بلدك ثم تنضم الى صفوف الأجانب! تلك عواقب الحروب والتشريد القسري، فالحروب تتترك في نفوس الموطنين ندوبا لا تندمل، فانها تجبرهم على الهجرة خوفا من بني جلدتهم، فإذا عادوا اليها بعد حين عادوا اليها أجانب، ولكنني علمت بعد ان دخلت مقديشو، وجبت في شوارعها، أنني حقا غريب اجنبي في بلدي، غريب النفس غريب الروح.
بعد ان أكملت اجراءات الدخول، استقلت حافلة الى نقطة اخرى غير بعيدة، وعند ما تكون في صالة المطار تشعر أن كل شيء على ما يرام، ولا تقع عينك على ما يثير الخوف، ولكن ما ان تضع رجلك خارج الصالة وتقف في محيط المطار حتى ينتابك الشك انك في مطار مدني دولي او في ثكنة عسكرية. وفي طريق خروجنا رايت دبابة عسكرية تقل جنودا مدججين بالسلاح، ومررنا بنقطتين امنيتين تابعتين لقوات حفظ السلام الأفريقية. وفي داخل الباص نشب جدل محتدم بين النساء والرجال، إذ اتهمت امرأة من الركاب الرجال الصوماليين بالتسبب في معاناة الامة وزج البلاد في مستنقع حروب لم تبق شيئا ولم تذر، ولقي كلامها ترحيبا من ركاب الحافلة خاصة النساء، فبعد ان طال كلامها، وامتدت اتهاماتها، انبرى لها شيخ عجوز، قد أكل عليه الدهر وشرب، فقال لها: بل النساء اكثر إفسادا من الرجال، الم تسمع ياهذه المرأة التي أخذت على نفسها عهدا بتمرير قانون المساواة بين الجنسين في البرلمان، وهل هناك إفساد أسوأ من هذا يا هذه! تعالت الضحكات، وكأن الرجل قد أحرز نقطة التعادل لفريق الرجال، هنا خففت المرأة من حدة لسانها، واضطرب النقاش من هذه اللحظة، وتشوش وتعددت منابره، وتداخلت اصواته، وانقسم الركاب بين نساء يلمن الرجال ورجال ينفي اللوم عن الرجال، وقليل من الساكتين بين هولاء واولئك، وكنت من هذا القليل الذي سكت، رغبة في الحياد، او إيثارا للسلامة.
وكنت اقول في نفسي: ازمتنا ازمة انسانية، ولهيب نار الحرب التي اشتعلت في ثوب امتنا، قد أحرقت الرجال والنساء على السواء، فمن العبث ان نحول هذه المأساة الانسانية الى نقاش سفسطائي يصرف المأساة عن جذورها الحقيقية، ويلصقها بأوهام تمييزية جندرية. وصلت محطة الباص، كانت حركة الشوارع بين المطار وبين محطة شركة سهل خفيفة، لم الاحظ فيها ما يثير الانتباة، أو يشير إلى وجود مخاوف امنية، الا ما أراه بين فينك وأخرى من مرور سيارات عسكرية تحمل جنودا من القوات الصومالية أو اخرى تابعة لقوات حفظ السلام الافريقية. كان في انتظاري في المحطة أخواي أخي حسين الشيخ حسن، عميد العائلة وعمدة بنائها، وأخي فواد عبدالله، واسطة العقد والخيط الذي ينظم سلك العائلة، عانقتهما بحرارة، وأخذنا سيارة أجرة.
في الطريق الى البيت مررنا بمقر وزارة التربية والتعليم الصومالية التي كانت في شهر اكتوبر مسرحا لعمليات تفجير إجرامية، تبنتها حركة الشباب، وقتل فيها الكثير من الابرياء، ومن بينهم عشرات من الطلاب الدين جاءوا الى الوزارة لتسلم شهاداتهم الثانوية. رأيت آثار التفجير على الجدار الخارجي لمقر الوزارة. معاناة معاناة !! مشهد مؤلم، تصورت في ذهني هذا المشهد المروع، وتراءى لي هولاء الشبان والشابات الذين كانت لهم طموحات وآمال في مستقبل افضل، حتى إذا كافحوا وتعلموا تحت هذه الظروف الصعبة، كانت تفحيرات الشباب لهم بالمرصاد، فصاروا في لحظة خبرا بعد عين، واشلاء متناثرة، ورؤوس متطايرة، يا لله من أرحام تشقق! وآمال تفجر! وطموحات تقبر !وامهات تثكل! واكباد تفجّع! مأساة انسانية ! لقد عانى هذا البلد سنوات من الحروب الاهلية، ولما تعبت القبائل من الحروب، وأيقنت ان لا منتصر فيها ولا منهزم، خرج عليهم شباب يتدثرون بلباس الاسلام، وما هم من الاسلام ولا من الشباب في شيء، وانما هم مافيا اجرامية استحلت دماء المسلمين وحرماتهم، اللهم انا نشكو اليك من ظلم هولاء وجرائمهم على أمتنا.
وقد اعلنت الحكومة الصومالية الحالية حملة عسكرية ضد الشباب بمشاركة مليشيات محلية، وقد أتت هذه الحملة بعضا من أكلها، ونجحت حتى الان في تحرير مناطق كثيرة في وسط الصومال وجنوبه من ايدي الشباب، ونرجو ان يواصل الجيش عملياته حتى يطهر البلاد كله من شر هذه العصابة الآثمة، فتلك خطوة أولى اساسية لاستتباب الامن والاستقرار في ربوع البلاد. وصلت البيت، وهناك كان في انتظاري الوالد الفاضل الشيخ عبدالله شافعي، والوالدة الفاضلة أمبيه الشيخ عبدالله عينتى، فقبلت رأسيهما، وارتميت في اخضانهما الدافئة، فلن تجد في الدنيا دفئا وحنانا يعادل دفء الوالدين وحنانهما، وهذا الدفء وذلك الحنان قد خففا عني بعض ما لعق في ذهني من صور المأساة الإنسانية افي بلدي.
ومن سوء حظي أن وصل الرئيس الجيبوتي اسماعيل عمر جيلة بعد يوم واحد من قدومي، فاغلقت له طرق المدينة، وكأنها في خطر تجوال شامل، ومع ذلك ذلك أصررت المشي على الأقدام حتى تقاطع شارع بنادر؛ لأرى معاناة الناس والاضرار التي تلحق بهم من هذا الإغلاق، ثلاث ايام متتاليات من الإغلاق! من اجل عيون الرئيس، انها اهانة للمواطنين واستخفاف بحياتهم، فمن لهولاء الشباب سائقو عربات البجاج الذين فقدوا قوتهم وقوت من يعولونهم من أسرهم، أدرك موقف الحكومة ومخاوفها الامنية، وكنت اتفاهم واتعاطف مع موقفها، لو اختصرت الزيارة على ساعات او حتى على يوم، ولكن ثلاث ايام من الإغلاق، وتعطيل حياة المواطنين اعتداء، او على اقل التقدير استخفاف بمصالح الناس.
في مقديشو رأيت دولة بلا أمة وأمة بلا دولة، دولة مهمتها ان تخدم السياسيين ومصالحهم، وأمة ترى الدولة مغنما لمن هو في السلطة، فكل قبيلة منشغلة بالحصول على الحصة الكبرى من غنيمة الدولة: مناصب ومزايا. وهنا تذكرت ثالوث المفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري (الغنيمة والقبيلة والعقيدة) ثالوث يرى انها توجه العقل السياسي العربي منذ القدم الى يومنا هذا، فتاثير هذا الثالوث المقيت في العقلية السياسية الصومالية منذ الاستقلال واضح لا تخطئه العين. لا يمكن بناء الدولة على عقلية الغنيمة والقبيلة. نريد دولة أمة، ولكن قبل ان نجد هذه الدولة، فلا بد من ايجاد أمة لها مصالح عامة مشتركة، متجاوزة عن المصالح القلبية الضيقة، فاذا نجحنا في ايجاد هذه الامة، نجحنا في بناء دولة وطنية حديثة قادرة على تحقيق مصالح الأمة المشتركة.